عقيدة أوباما: لماذا لم تتدخل الولايات المتحدة عسكريًا في سوريا؟

Genevieve Magazine

مقدمة المترجم: مع حلول الأشهر الأخيرة للرئيس الأمريكي، باراك أوباما، داخل البيت الأبيض، بعد فترتين رئاسيتين، تأخذنا هذه المقابلة المطوّلة التي أجراها معه الصحفي بمجلة "ذي أتلانتك"، جيفري جولدبيرج، إلى رحلة مشوقة خلف كواليس ثمان سنواتٍ من حكم أقوى دولة في العالم، فضّلت تقسيم المقابلة إلى أجزاء حسب القضايا التي تطرقت إليها المقابلة ونبدأها بالجزء المتعلق بالأزمة السورية والدور الأمريكي، أو بالأحرى، اللادور الأمريكي، فيها. كذلك تعطينا هذه المقابلة بعض لمحات عن فكر المرشحة الرئاسية الديمقراطية الحالية، هيلاري كلينتون، ومواقفها خلال السنوات الثمان المنقضية لها وسط دائرة صنع القرار الأمريكية. إلى نص المقابلة:

الجمعة 30 أغسطس 2013، إنه اليوم الذي عجل فيه باراك أوباما، الضعيف، بنهاية نفوذ أمريكا بصفتها القوة العظمى الوحيدة التي لا غنى عنها في العالم، أو، من ناحية أخرى، اليوم الذي أمعن فيه باراك أوباما الفطن النظر إلى الهاوية المسماة بالشرق الأوسط، وتراجع عن الدخول إلى فراغها المُستنزِف.

بدأ ذلك بخطاب مدوي تلاه نيابة عن أوباما وزير خارجيته، جون كيري، في العاصمة واشنطن. تمحورت تصريحات كيري، التشرشلية على نحو غير معهود، والتي أطلقها من غرفة المعاهدات بوزارة الخارجية الأمريكية، حول قصف المدنيين بالغاز من قبل الرئيس السوري بشار الأسد.

يميل أوباما نفسه إلى الخطابة المبالغ فيها، وهو ما يساعده فيه كيري بإخلاص، ولكن مع بعض الحنق، والتي لا تكون عادة من النوع العسكري المرتبط بتشرشل. يعتقد أوباما أن المانوية (ديانة قديمة)، والعدوانية الصادرة بلغة بليغة، اللتين كانتا مرتبطتين بتشرشل، كانتا مبررتين بفعل صعود هتلر، وكانتا في بعض الأحيان مبررتين في سياق النضال ضد الاتحاد السوفيتي. لكنه يظن أيضًا أن الخطاب يجب أن يستخدم كسلاح على نحو مقتصد، إن استخدم من الأساس، في الساحة الدولية الحالية الأكثر تعقيدًا وغموضًا.

يعتقد الرئيس أن الخطاب التشرشلي و، بشكل أكثر دقة، عادات التفكير التشرشلية، قد أدت بسابقه، جورج دبليو بوش، إلى الحرب المدمرة في العراق. فقد وصل أوباما إلى البيت الأبيض عازمًا على الخروج من العراق وأفغانستان؛ فلم يكن يبحث عن وحوش جديدة ليقتلها. وكان منتبهًا بشكل خاص للنصر الملوح في الأفق في الصراعات التي اعتقد أنه لا يمكن الفوز بها. "إن كنت لتقول، على سبيل المثال، أننا سنخلص أفغانستان من طالبان، وسنبني محلها دولة ديمقراطية، فإن الرئيس مدرك لفكرة أن أحدهم، بعد سبعة أعوام، سيحاسبك على ذلك الوعد"، حسبما أخبرني بن رودس، نائب مستشار الأمن القومي لأوباما، وسكرتيره لشؤون السياسات الخارجية، منذ وقت ليس ببعيد.

ولكن تلك التصريحات المثيرة التي صدرت عن كيري في أغسطس، التي صيغت جزئيًا بواسطة رودس، كانت قد صيغت بمزيج من الغضب المبرر أخلاقيًا والوعود الجريئة، بما في ذلك التهديد السافر بالهجوم الوشيك. شعر كيري، كحال أوباما نفسه، بالذهول تجاه الآثام التي ارتكبها النظام السوري ضمن مسعاه لسحق تمردٍ عمره عامين.

ففي ضاحية الغوطة الدمشقية، قبل تسعة أيام، قتل جيش الأسد أكثر من 1400 مدني مستخدمًا غاز السارين. كان الشعور المسيطر داخل إدارة أوباما هو أن الأسد قد استحق عقابًا شديدًا. وفي اجتماعات غرفة العمليات التي تبعت الهجوم على الغوطة، حذر مسؤول واحد فقط بالإدارة، دنيس ماكدونو، كبير موظفي البيت الأبيض، بشكل صريح من مخاطر التدخل في سوريا. بينما ناصر جون كيري بقوة فكرة الرد.

قال كيري في خطابه: "بينما تجمعت الزوبعات السابقة في التاريخ، عندما كان في إمكاننا وقف الجرائم التي لا توصف، تم تحذيرنا من إغراءات البحث عن وسائل أخرى للرد"، وتابع: "التاريخ ملئ بالقادة الذين حذروا من التراخي، اللامبالاة، وبشكل خاص، الصمت، عندما مثّل الاستجابة الأهم".

اعتبر كيري الرئيس أوباما أحد هؤلاء القادة. فقبل ذلك بعام، عندما شكّت الإدارة في أن نظام الأسد كان يعتزم استخدام الأسلحة الكيميائية، صرح أوباما: "لقد كنا واضحين للغاية بالنسبة لنظام الأسد... يتمثل الخط الأحمر بالنسبة لنا في أن نشهد تحريك مجموعة كاملة من الأسلحة الكيميائية، أو البدء في استخدامها. سيغير ذلك حساباتي. بل سيغير ذلك معادلاتي".

ولكن رغم هذا التهديد، بدا أوباما بالنسبة للكثير من المنتقدين منفصلًا ببرود عن معاناة السوريين الأبرياء. ففي أواخر صيف 2011، دعى أوباما إلى رحيل الأسد، حيث قال "لصالح الشعب السوري، حان الوقت لتنحي الرئيس الأسد". ولكنه لم يفعل الكثير في البداية لجلب نهاية لعهد الأسد.

قاوم أوباما المطالبات بالتصرف، جزئيًا، لأنه افترض، بناء على تحليلات الاستخبارات الأمريكية، أن الأسد سيسقط دون تدخله.  "لقد ظن أن الأسد سيرحل على طريقة مبارك"، وفق دينيس روس، مستشار أوباما لشؤون الشرق الأوسط، في إشارة إلى الرحيل السريع للرئيس المصري حسني مبارك في مطلع 2011، في لحظة مثلت أوج زخم الربيع العربي. لكن بينما تشبث الأسد بالسلطة، نمت مقاومة أوباما لفكرة التدخل المباشر. فبعد عدة أشهر من المشاورات، أذن لوكالة الاستخبارات المركزية بتدريب وتمويل المتمردين السوريين، لكن تطلعاته المستقبلية توافقت مع تطلعات وزير دفاعه السابق، روبرت جيتس، الذي سأل بشكل متكرر في الاجتماعات: "ألا يجب أن ننهي الحربين القائمتين قبل أن نبدأ حربًا جديدة؟"

دعت السفيرة الأمريكية الحالية بالأمم المتحدة، سامانثا باور، وهي الشخصية الأكثر ميلًا للتدخل ضمن كبار مستشاري أوباما، في وقت سابق لتسليح المتمردين السوريين. أصدرت سمانثا، التي عملت خلال عهد أوباما ضمن أعضاء مجلس الأمن القومي، كتابًا شهيرًا وجهت فيه انتقادات لاذعة لسلسلةٍ متعاقبةٍ من الرؤساء الأمريكيين لإخفاقهم في منع وقوع الإبادة الجماعية. قرّب الكتاب، الذي حمل اسم "A Problem From Hell"، ونُشر عام 2002، أوباما إلى باور بينما كان عضوًا بمجلس الشيوخ الأمريكي، رغم أن الاثنين لم يكونا متقاربين فكريًا إلى حد كبير. فباورة مناصرة لعقيدة معروفة باسم "مسؤولية الحماية"، التي ترى أن السيادة لا يجب اعتبارها محصنة عندما تقتل دولة شعبها.
ضغطت باور على أوباما لحمله على تأييد هذه العقيدة في خطاب تسلمه لجائزة نوبل عام 2009، لكنه رفض. وبشكل عام، لا يعتقد أوباما أنه على الرئيس الأمريكي أن يعرَض أرواح الجنود الأمريكيين لخطر كبير من أجل منع الكوارث الإنسانية، مالم تشكل تلك الكوارث تهديدًا أمنيًا مباشرًا للولايات المتحدة.

تجادلت باور أحيانًا مع أوباما أمام المسؤولين الآخرين بمجلس الأمن القومي، لدرجة أنه لم يعد قادرًا على إخفاء إحباطه. بلغ الأمر ذات مرة أن فقد أعصابه وقال: "كفى يا سامنثا! لقد قرأت كتابك بالفعل".


أوباما في المكتب البيضاوي، حيث صدم مساعديه لشؤون الأمن القومي، قبل عامين ونصف، بدعوته لوقف الغارات الجوية على سوريا. (تصوير: روفين أفاندور)

أوباما، على خلاف التدخليين الليبراليين، معجب بمذهب الواقعية في السياسة الخارجية، الخاص بالرئيس الأسبق جورج دبليو إتش بوش و، بشكل خاص، مستشار بوش للأمن القومي، برنت سكوكروفت ("أحب ذلك الرجل"، حسبما اخبرني أوباما ذات مرة عنه). طرد بوش وسكوكروفت جيش صدام حسين من الكويت عام 1991، وتمكنا ببراعة من تفكيك الاتحاد السوفيتي؛ كما وجّه سكوكروفت، بالنيابة عن بوش، انتقادات حادة لقادة الصين بعد فترة وجيزة من وقوع مذبحة ميدان تيانانمين.

وبينما كان أوباما يكتب بيان حملته الانتخابية، كتاب "جرأة الأمل"، في عام 2006، شعرت سوزان رايس، التي كانت في حينها مستشارة غير رسمية له، أنه من الضروري تذكيره بتضمين عبارة إشادة بنهج السياسة الخارجية الذي اتبعه الرئيس بيل كلينتون، لتحقيق التوازن جزئيًا مع الإشادات التي أغرق بها بوش وسكوكروفت.
في مستهل الثورة السورية، مطلع عام 2011، رأت باور أن المتمردين، القادمين من صفوف المواطنين العاديين، قد استحقوا دعمًا واسعًا من جانب أمريكا. بينما أشار آخرون إلى أن هؤلاء المتمردون كانوا مزارعين، أطباء ونجارين، في مقارنة بينهم وبين الرجال الذين انتصروا بحرب الاستقلال الأمريكية.

قلب أوباما هذه الحجة رأسًا على عقب. حيث أخبرني ذات مرة: "عندما يكون لديك جيش محترف، جيد التسليح ويحظى برعاية دولتين كبيرتين" – إيران وروسيا – " اللتين لديهما مصالح كبيرة هناك، وتقاتلان ضد مزارعين، نجارين، ومهندسين بدأ بهم الأمر بكونهم محتجين، ووجدوا أنفسهم فجأة وسط نزاع أهلي..." ثم صمت لبرهة، وتابع: "فكرة أننا كان في إمكاننا تغيير المعادلة على الأرض – بطريقة نظيفة لا تورط القوات العسكرية الأمريكية – لم تكن أبدًا صحيحة".

كانت الرسالة التي بثها أوباما في خطاباته ومقابلاته واضحة؛ لن ينتهي به الحال كالرئيس جورج بوش الابن – أي، رئيس أصبح متحملًا لإلتزامات مفرطة على نحو مأسوي في الشرق الأوسط، وملأت قراراته عنابر مركز والتر ريد الطبي العسكري بالجنود المثخنين بالجراح الخطيرة، وكان عاجزًا عن وقف طمس سمعته، حتى مع تعديله لسياساته في مدته الرئاسية الثانية. قد يقول أوباما سرًا إن أول مهمة لأي رئيس أمريكي على الساحة الدولية في عهد ما بعد بوش كانت "عدم الإقدام على أي أفعال غبية".

نتج عن تحفظ أوباما إحباط باور وآخرين ضمن فريقه لشؤون الأمن القومي، الذين فضلوا التدخل. فقد دعت هيلاري كلينتون، حين كانت وزيرة خارجية أوباما، إلى ردٍ مبكرٍ وحازم على عنف الأسد. وفي عام 2014، بعد أن غادرت منصبها، قالت لي إن "الفشل في المساعدة في بناء قوة قتالية جديرة بالثقة من الأشخاص الذين بادروا بالاحتجاج ضد الأسد.. خلّف فراغًا كبيرًا، وهو الفراغ الذي ملأه الجهاديون الآن".

عندما نشرت مجلة "أتلانتك" هذا التصريح، ونشرت أيضًا قول كلينتون إن "الدول الكبرى تحتاج إلى مبادئ منظِمة، وأن تعبير أوباما "عدم الإقدام على أي أفعال غبية"، لا يمثل مبدأً منظِمًا "، أصبح أوباما "غاضبًا للغاية"، وفق أحد كبار مستشاريه.

لم يفهم الرئيس كيف أن "عدم الإقدام على أية أفعال غبية"، يمكن اعتباره شعارًا مثيرًا للجدل. ويتذكر بن رودس: "كان السؤال الذي طرحناه في البيت الأبيض هو "من تحديدًا يناصر الأفعال الغبية؟"". اعتقد أوباما أن غزو العراق كان ينبغي أن يعلم التدخليين الديمقراطيين، مثل كلينتون، الذين صوتوا لصالح تنفيذه، مخاطر الإقدام على الأفعال غبية. (اعتذرت كلينتون سريعًا لأوباما عن تعليقاتها، وأعلن المتحدث باسمها أنهما سيتجاوزا الأمر عندما يتقابلا لاحقًا بجزيرة مارثا فينيارد).

مثلت سوريا، بالنسبة لأوباما، منحدرًا يحتمل أن يكون زلقًا كالمنحدر العراقي. ففي فترته الرئاسية الأولى، توصل إلى الاعتقاد بأن حفنة فقط من التهديدات في الشرق الأوسط تبرر التدخل العسكري الأمريكي المباشر. والتي شملت تهديد تنظيم القاعدة؛ التهديدات التي يواجهها استمرار وجود إسرائيل ("سيمثل الأمر فشلًا أخلاقيًا لي كرئيس للولايات المتحدة" ألا أدافع عن إسرائيل، حسبما قال لي ذات مرة)؛ وفي سياق آخر، التهديد الذي تشكله إيران المسلحة نوويًا.

لكن الخطر الذي شكله نظام الأسد على الولايات المتحدة لم يرق إلى مستوى تلك التحديات.

في ضوء تحفظ أوباما تجاه التدخل، كان الخط الأحمر الواضح الذي رسمه لنظام الأسد في صيف 2012 مدهشًا. بل وأصاب حتى مستشاريه بالدهشة. حيث أخبرني وزير دفاعه آنذاك، ليون بانيتا: "لم أدرك أن ذلك سيحدث". لقد علمت أن نائب الرئيس، جو بايدن، قد حذر أوباما مرارًا من رسم الخط الأحمر عند عتبة استخدام الأسلحة الكيميائية، خوفًا من أنه في يوم ما سيتعين تطبيقه.

اقترح كيري، في تصريحاته بتاريخ 30 أغسطس 2013، أن الأسد يجب عقابه، جزئيًا لأن "المصداقية والمصالح المستقبلية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائنا" كانت على المحك. "الأمر متصل بشكل مباشر بمصداقيتنا، وما إن كانت الدول الأخرى لاتزال تصدق الولايات المتحدة عندما تعد بشيء ما أم لا.  ينتظر الآخرون ليروا إن كانت سوريا ستفلت من العقاب، لأنه عندها ربما يتمكنون هم أيضًا من تعريض العالم لخطرٍ أكبر".

بعد تسعين دقيقة من الخطاب، في البيت الأبيض، دعم أوباما رسالة كيري عبر بيان رسمي، حيث قال: "من المهم بالنسبة لنا أن ندرك أنه حين يُقتل 1000 شخص، بينهم مئات الأطفال الأبرياء، باستخدام سلاح ترى أغلبية البشرية أنه لا يجب استخدامه حتى ولو في الحرب، وألا يتصدى أحد لذلك، فإننا نبث رسالة مفادها أن المبادئ الدولية لا تعني الكثير. ما يمثل خطرًا على أمننا القومي".

بدا الأمر كما لو أن أوباما قد خلص إلى استنتاج أن الإضرار بالمصداقية الأمريكية في منطقة من العالم سوف يمتد إلى المناطق الأخرى، وأن مصداقية قوة الردع الأمريكية كانت بالفعل على المحك في سوريا. بدا أن الأسد قد نجح في دفع الرئيس الأمريكي إلى موضعٍ لم يظن أبدًا أنه سيذهب إليه. يعتقد أوباما بشكل عام أن مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية،  التي يزدريها سرًا، تصنع صنمًا من "المصداقية" – وخصوصًا نوع المصداقية التي تُشترى بالقوة. لقد أدى الحفاظ على المصداقية، حسبما قال أوباما، إلى حرب فيتنام. وداخل البيت الأبيض، يرى أوباما أن "قصف أحدهم من أجل إثبات أنك مستعد لقصف أحدٍ آخر يعد واحدًا من أسوأ مبررات استخدام القوة".

تعتبر مصداقية الأمن القومي الأمريكية، بمفهومها التقليدي في البنتاجون، وزارة الخارجية، ومجموعة مؤسسات الأبحاث التي تقع مقراتها الرئيسية على بعد خطوات من البيت الأبيض، قوة فعالة مع كونها غير ملموسة – وهي التي تحافظ، عند رعايتها بشكل ملائم، على شعور أصدقاء أمريكا بالأمن وتبقي على استقرار النظام الدولي.

في اجتماعات البيت الأبيض التي جرت خلال ذلك الأسبوع الحاسم من أغسطس، قال بايدن، الذي يتشارك مع أوباما عادةً المخاوف بشأن التوسع الأمريكي المفرط، بحماس "الدول الكبرى لا تخادع". فقد اعتقد أقرب حلفاء أمريكا في أوروبا وفي أنحاء الشرق الأوسط أن أوباما كان يهدد بتنفيذ عمل عسكري، وكذلك مستشاريه. وفي مؤتمر صحفي مشترك مع أوباما بالبيت الأبيض في مايو الماضي، قال ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، إن "تاريخ سوريا يُكتب بدماء شعبها، وأمام أعيننا". كان المقصود بتصريح كاميرون، حسبما أخبرني أحد مستشاريه، دفع أوباما نحو عملٍ أكثر حسمًا. "بالتأكيد كان رئيس الوزراء لديه انطباع بأن الرئيس سيطبق الخط الأحمر"، وفق مستشار كاميرون.

قال السفير السعودي في واشنطن آنذاك، عادل الجبير، لبعض الأصدقاء، ولرؤسائه في الرياض، إن الرئيس كان أخيرًا مستعدًا لشن الغارات. وأضاف الجبير، الذي أصبح الآن وزيرًا للخارجية السعودية، إن أوباما "قد أدرك مدى أهمية ذلك. سيضرب بلا شك".

أمر أوباما البنتاجون بالفعل بإعداد قوائم أهداف، بينما كانت خمس مدمرات من نوع "آرلي بيرك" في البحر المتوسط، مستعدة لتطلق صواريخ كروز على أهدافٍ تابعة للنظام. كذلك كان الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، القائد الأوروبي الأكثر مناصرة للتدخل، يستعد للضرب. وطوال الأسبوع، كان مسؤولو البيت الأبيض يأسسون بشكل علني لحجة ارتكاب الأسد لجرائم ضد الإنسانية. وكان خطاب كيري سيتوج جهود تلك الحملة.

ولكن الرئيس شعر بالقلق. ففي الأيام التي تلت ضرب الغوطة بالسلاح الكيميائي، حسبما أخبرني أوباما لاحقًا، وجد الرئيس نفسه متراجعًا عن فكرة شن هجومٍ غير مصرح به من قبل القانون الدولي أو الكونجرس. فقد بدا الشعب الأمريكي غير متحمسٍ تجاه التدخل في سوريا، كذلك كان موقف واحدة من القادة الأجانب القليلين الذين يحترمهم أوباما، أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية. إذ أبلغته أن بلادها لن تشارك في حملةٍ بسوريا. وفي تطور مذهل، في يوم الخميس 29 أغسطس، نفى البرلمان البريطاني مباركته لكاميرون أي هجوم. وأخبرني كيري لاحقًا، "شعرت داخليًا بأننا أخطأنا"، إثر سماعه تلك الأنباء.

كذلك اضطرب أوباما بسبب زيارة مفاجأة جرت مبكرًا من ذات الأسبوع من قبل جيمس كلابر، مديره للاستخبارات الوطنية، إذ قاطع "الموجز اليومي" للرئيس، الذي يستعرض فيه تقرير التهديدات الذي يتلقاه كل صباح من محللي كلابر، ليوضح أن الاستخبارات المتعلقة باستخدام سوريا لغاز السارين، رغم كونها قوية، لم تعتبر "مؤكدة بشكل حاسم"، وقد اختار كلابر ذلك المصطلح بعناية، فكلابر رئيس قطاعٍ استخباراتي موصوم بإخفاقاته في الفترة التي سبقت حرب العراق، ما جعله يتخلى عن المبالغة على طريقة جورج تينيت، الذي كان مسبقًا رئيسًا لوكالة الاستخبارات المركزية، ووعد جورج دبليو بوش، على نحو معروف، بـ"ضربة قاضية" في العراق.


صورة: اجتماع أوباما ونائب الرئيس، جو بايدن، بأعضاء مجلس الأمن القومي، بينهم سوزان رايس وجون كيري (الثانية والثالث من اليسار)، في ديسمبر 2014. (بيت سوزا/ البيت الأبيض)

بينما كان البنتاجون وأجهزة الأمن القومي التابعة للبيت الأبيض لا يزالون يتحركون صوب الحرب (أخبرني جون كيري أنه كان يتوقع ضربة في اليوم التالي لخطابه)، توصل الرئيس إلى اعتقاد بأنه يسير نحو شرك – شرك نصبه الحلفاء والخصوم بناء على التوقعات التقليدية لما يفترض أن يفعله الرئيس الأمريكي.

لم يفهم الكثير من مستشاري أوباما عمق شكوكه، وبالتأكيد لم يدرك وزرائه وحلفاؤه هذه المخاوف. ولكن شكوكه كانت في طور النمو. ففي وقت متأخر من مساء الجمعة، قرر أوباما أنه ببساطة لم يكن مستعدًا للإيذان بالهجوم. وطلب من كبير موظفي البيت الأبيض، ماكدونو، أن يتمشى معه في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض.

 لم يختر أوباما ماكدونو عشوائيًا؛ فهو مساعد أوباما الأكثر نفورًا من فكرة التدخل العسكري، وهو الشخص، حسبما عبر أحد زملائه، "الذي يضع الأشراك في اعتباره". كان أوباما، الواثق بنفسه بشكل غير عادي عادةً، يسعى إلى التأكد من قراره، ويحاول ابتكار وسائل لشرح تغييره لرأيه، أمام مساعديه وأمام الجمهور. استمرت جولته مع ماكدونو مدة ساعة. أخبره أوباما خلالها أنه كان قلقًا من أن الأسد سوف يستخدم المدنين كـ"دروع بشرية" حول الأهداف الواضحة، كما أشار إلى عيب مستتر في الضربة المقترحة، وهو أن الصواريخ الأمريكية لن تُطلق صوب مستودعات الأسلحة الكيميائية، خوفًا من انبعاث أعمدة من الغازات السامة في الهواء. بل ستستهدف الضربة الوحدات العسكرية التي وجّهت تلك الأسلحة، لا الأسلحة ذاتها.

كذلك تشارك أوباما مع ماكدونو استياءً طويل العهد؛ فقد كان متعبًا من مشاهدة واشنطن تنجرف دون تفكير صوب الحروب في الدول الإسلامية. قبل أربعة أعوام، اعتقد الرئيس أن البنتاجون قد ضغط عليه ليأذن بزيادة القوات في أفغانستان. والآن، بدأ الشعور بمثل تلك الضغوط مجددًا بصدد سوريا.

عندما عاد الرجلان إلى المكتب البيضاوي، أخبر الرئيس مساعديه لشؤون الأمن القومي إنه يعتزم التراجع. لن يحدث هجومٌ في اليوم التالي؛ بل أراد تحويل الأمر للتصويت في الكونجرس.

شعر المساعدون في المكتب بالصدمة. وعلقت سوزان رايس، مستشارة أوباما الحالية لشؤون الأمن القومي، إن ضرر ذلك القرار بمصداقية أمريكا سيكون خطيرًا وطويل الأمد. بينما وجد آخرون صعوبة في فهم كيفية تمكن الرئيس من التراجع قبل يوم من تنفيذ ضربة مخطط لها. إلا أن أوباما كان هادئً تمامًا. أخبرني بن رودس "إن كنت ضمن من أحاطوه، كنت لتعرف عندما يكون مترددًا بشأن أمرٍ ما، عندما تكون كفتي قرارٍ ما متقاربتين. لكنه كان مرتاحًا تمامًا".
قبل فترة وجيزة، طلبت من أوباما أن يصف لي ما دار بذهنه في ذلك اليوم. فتحدث عن المخاوف العملية التي شغلته. "كان هناك مفتشون أمميون على الأرض يكملون عملهم، ولم يكن في إمكاننا المخاطرة بشن غارة أثناء وجودهم هناك. بينما تمثل عامل رئيس آخر في فشل كاميرون في الحصول على موافقة برلمانه".

وأضاف أن العامل الثالث، والأهم، كان "تقييمنا القائل بأنه بينما نستطيع إلحاق بعض الضرر بالأسد، لم يكن بإمكاننا، بواسطة الهجوم الصاروخي، تدمير الأسلحة الكيميائية ذاتها، وفي تلك الحالة، كنت سواجه احتمالية صمود الأسد أمام الضربات وزعمه أنه قد نجح في تحدي الولايات المتحدة، وأن الولايات المتحدة قد تصرفت على نحوٍ غير قانوني في غياب تفويضٍ من الأمم المتحدة، كان ذلك ليؤدي على نحو محتمل إلى تعزيز قبضته لا إضعافها".

وتابع بأن العامل الرابع كان له أهمية فلسفية أعمق. حيث أوضح: "يعد ذلك جزءً من أمرٍ أطلت التفكير فيه لبعض الوقت"، وهو أنني، "وصلت إلى منصبي مع اعتقادي بقوة بأن نطاق القوة التنفيذية في قضايا الأمن القومي واسع للغاية، ولكنه ليس دون حدود".

أدرك أوباما أن قراره عدم قصف سوريا سيؤدي على الأرجح إلى إغضاب حلفاء أمريكا. وقد فعل. إذ أخبرني رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس، إن حكومته كانت بالفعل قلقة بشأن عواقب التراخي عن التدخل في فترة مبكرة بسوريا، عندما تعلق الأمر بتنحي الأسد. حيث أوضح لي: "لقد خلقنا وحشًا عبر عدم التدخل مبكرًا"، وتابع، "كنا متأكدين تمامًا أن الإدارة الأمريكية ستوافق. فخلال فترة عملنا مع الأمريكيين، كنا بالفعل قد حددنا الأهداف. ومثّل تراجعهم مفاجأة كبيرة. إن قصفنا سوريا مثلما كان مخططًا، كانت الأمور لتكون مختلفة اليوم".

عبّر ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد آل نهيان، الذي كان مستاءً بالفعل من أوباما بسبب "تخليه" عن حسني مبارك، الرئيس المصري الأسبق، عن غضبه لزائرين أمريكيين بقوله إن الولايات المتحدة يقودها رئيس "غير جدير بالثقة". بينما تذمر بشكل خاص ملك الأردن، عبد الله الثاني – الفزع بالفعل بسبب ما اعتبره رغبة غير منطقية من جانب أوباما لإبعاد الولايات المتحدة عن حلفائها السنة التقليديين وخلق تحالف جديد مع إيران، الراعية الشيعية للأسد – حيث قال: "أظن أنني أؤمن بالقوة الأمريكية أكثر من إيمان أوباما نفسه بها". كذلك كان السعوديون، الذين لم يثقوا مطلقًا بأوباما، غاضبين، بينما أشار هو إليهم، قبل فترة طويلة من توليه الرئاسة، بوصفهم "من يسمون بحلفاء الولايات المتحدة".

جدير بالذكر أن الجبير، السفير السعودي في واشنطن، قد أبلغ رؤسائه في الرياض بأن: "إيران هي القوة العظمى الجديدة في الشرق الأوسط، لقد ولّى عهد الولايات المتحدة".

تسبب قرار أوباما في اضطرابات بأنحاء واشنطن أيضًا. فقد التقى جون ماكين وليندسي جراهام، السيناتوران الجمهوريان البارزان بمجلس الشيوخ، بأوباما في البيت الأبيض في وقت مبكر من ذات الأسبوع وحصلا على وعد بتنفيذ الضربة. لذلك أغضبهما التغير المفاجئ للقرار. بل وبلغ الضرر داخل إدارة أوباما. حيث لم يكن تشاك هاجل، وزير الدفاع آنذاك، ولا جون كيري في المكتب البيضاوي عندما أعلم أوباما فريقه بشأن قراره. ولم يعلم كيري بذلك سوى في وقت لاحق من ذلك المساء.

"لقد تعرضت للخداع"، حسبما قال لصديقٍ بعد فترة وجيزة من الحديث مع الرئيس في تلك الليلة. (عندما سألت كيري مؤخرًا بشأن تلك الليلة العصيبة، قال: "لم أتوقف عن تحليل أحداث تلك الليلة. وتوصلت إلى أن الرئيس كان لديه سبب وجيه لاتخاذ القرار، وبصراحة، تفهمت فكرته").

كانت الأيام القليلة التالية فوضوية. فقد طلب الرئيس من الكونجرس التفويض لاستخدام القوة، وتولى كيري، الذي يتعذر كبحه، مسؤولية الضغط من أجل تمرير القرار، ولكن اتضح سريعًا داخل البيت الأبيض أن الكونجرس لم يكن متطلعًا لتنفيذ الضربة.

عندما تحدثت مع بايدن مؤخرًا بشأن قرار الخط الأحمر، أشار بشكل خاص إلى تلك الملحوظة: "من المهم أن يكون الكونجرس في صفك، لتعزيز قدرتك على استدامة ما تعتزم فعله". وتابع بأن أوباما "لم يذهب إلى الكونجرس ليخلص نفسه من المأزق، بل كانت لديه شكوكه الخاصة في تلك المرحلة، لكنه أدرك أنه إن كان ينوي اتخاذ أي خطوة، فمن الأفضل أن يكون الجمهور في صفه، وإلا ستكون تلك الهجمة مقتضبة للغاية".

أقنع التناقض الواضح من جانب الكونجرس بايدن بأن أوباما كان محقًا في تخوفه من المنحدر الزلق. حيث قال: "ماذا سيحدث إن أسقطت إحدى طائراتنا؟ ألن نتدخل لإنقاذ طاقمها؟ لذلك نحتاج إلى دعم الشعب الأمريكي".

وسط ذلك التخبط، ظهر المنقذ فجأة متمثلًا في الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. في قمة مجموعة العشرين بسان بطرسبرج، التي أقيمت بعد أسبوع من قرار أوباما بالتراجع، اجتذب أوباما بوتين جانبًا، حسبما أخبرني، وقال للرئيس الروسي إنه "إن أجبر الأسد على التخلص من الأسلحة الكيميائية، سيبطل ذلك حاجتنا لتنفيذ ضربة عسكرية". وخلال أسابيع، سيدبر كيري، بالتعاون مع نظيره الروسي، سيرجي لافروف، نزع معظم ترسانة الأسلحة الكيميائية السورية – وهو برنامج رفض الأسد حتى تلك الفترة مجرد الاعتراف بوجوده.

بفضل ذلك الاتفاق، حظى الرئيس بإشادة الجميع، حتى من بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي حظى بشكل مستمر بعلاقة مضطربة بأوباما. حيث أخبرني نتنياهوبعد فترة وجيزة من الإعلان عن الاتفاق أن نزع مستودعات الأسلحة الكيميائية السورية قد مثّل "بارقة الأمل الوحيدة في منطقة غارقة بالظلام".

يضيق كيري ذرعًا اليوم بمن يطرحون، مثلما فعل هو من قبل، فكرة أن أوباما قد تعين عليه قصف مواقع نظام الأسد لتعزيز قدرات الردع الأمريكية. "ستظل الأسلحة موجودة هناك، وستقاتل داعش على الأرجح" من أجل السيطرة على تلك الأسلحة، حسبما أوضح كيري، "لا يبدو الأمر منطقيًا. ولكن لا يمكنني إنكار أن فكرة عبور الخط الأحمر وعدم فعل أوباما لشيء حيال ذلك قد خرجت عن السيطرة".

يدرك أوباما أن قراره بالتراجع عن الضربات الجوية، والسماح بانتهاك خط أحمر رسمه هو بنفسه دون عقاب، سيتعرض للاستجواب بلا هوادة من قبل المؤرخين. ولكن اليوم يمثل ذلك القرار مصدرًا للارتياح العميق بالنسبة له.
"أشعر بفخر شديد تجاه تلك اللحظة"، حسبما أبلغني أوباما، "لقد انحرف قليلًا الثِقل الكبير للحكمة التقليدية وماكينة أجهزة أمننا القومي عن مساره. أدركت أن مصداقيتي على المحك، وكذلك المصداقية الأمريكية. لذلك بالنسبة لي، علمت أن تعليق الأمور في تلك اللحظة سيكلفني سياسيًا. وحقيقة أنني تمكنت من الانسحاب من أمام جميع الضغوط المباشرة وفكرت مليًا بشأن ما يصب بمصلحة أمريكا، ليس فقط فيما يتعلق بسوريا، بل أيضًا بما يتصل بديمقراطيتنا، تجعل ذلك القرار من أصعب القرارات التي اتخذتها – وفي النهاية، أعتقد أنها كان صائبًا".

يعتقد الرئيس أنه قد تخلى في تلك اللحظة أخيرًا عما يطلق عليه، متهكمًا، "دليل إرشادات واشنطن".

أضاف أوباما: "متى أثير الجدل؟ عندما يتعلق الأمر باستخدام القوة العسكرية"، وتابع، "ذلك هو مصدر إثارة الجدل. هناك دليل للإرشادات في واشنطن يفترض أن يتبعه الرؤساء. يصدر ذلك الدليل عن مؤسسة السياسة الخارجية، ويصف كيفية الاستجابة أمام مختلف الأحداث، تميل استجابات الدليل عادة إلى أن تكون عسكرية. وحيث تكون أمريكا مهددة بشكل مباشر، ينجح ذلك الدليل. ولكنه قد يمثل شركًا أيضًا يؤدي إلى اتخاذ قرارات سيئة. وفي مواجهة تحدٍ دولي كسوريا، يُحكم عليك بشكل قاس إن لم تتبع الدليل، حتى وإن كانت حجتك لعدم تطبيقه قوية".

توصلت إلى اعتقادٍ بأنه، داخل ذهن أوباما، مثّل يوم 30 أغسطس 2013 يوم تحرره، إنه اليوم الذي لم يتحدى فيه مؤسسة السياسة الخارجية فقط ودليلها لاستخدام صواريخ "كروز"، بل أيضًا مطالب حلفاء أمريكا المحبِطين كثيري الشكوى في الشرق – الدول التي، حسبما ينتقدها بشكل خاص أمام الأصدقاء والمستشارين، تسعى إلى استغلال القوة الأمريكية لصالح غاياتها الضيقة والطائفية.

بحلول عام 2013، كانت مشاعر الاستياء لدى بأوباما قد نمت. لقد استاء من القادة العسكريين الذين اعتقدوا أن بإمكانهم إصلاح أي مشكلة إن أعطاهم القائد العام ببساطة ما طلبوه، واستاء أيضًا من مجمع مراكز أبحاث السياسة الخارجية. يسري شعور على نطاق واسع بالبيت الأبيض بأن العديد من مؤسسات أبحاث السياسة الخارجية الأبرز في واشنطن تتبنى آراء مموليها العرب أو المناصرين لإسرائيل. فقد سمعت أحد مسؤولي الإدارة يشير إلى شارع ماساشوستس، حيث يقع العديد من تلك المراكز، بوصفه "الأراضي التي يحتلها العرب".


أوباما يتحدث مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين قبل الجلسة الافتتاحية بقمة العشرين بأنطاليا في نوفمبر 2015 (جيم أوكسوز).

بالنسبة لبعض خبراء السياسة الخارجية، حتى داخل إدارة أوباما نفسها، مثّل تراجع أوباما المفاجئ عن تطبيق الخط الأحمر لحظة محبطة أظهر فيها الرئيس التردد والسذاجة، وتسببت في ضرر طويل الأمد بمكانة أمريكا أمام العالم. أخبرني ليون بانيتا مؤخرًا، الذي عمل مديرًا لوكالة الاستخبارات المركزية وكان آنذاك وزيرًا للدفاع خلال فترة أوباما الرئاسية الأولى، " بمجرد رسم القائد العام لذلك الخط الأحمر تصبح مصداقيته ومصداقية دولته على المحك إن لم يطبقه". مباشرة بعد تراجع أوباما، قالت هيلاري كلينتون سرًا: "إن أعلنت أنك ستضرب، يجب أن تضرب. الأمر ليس اختياريًا".

كما كتب شادي حامد، الباحث بمؤسسة "بروكينجز"، ضمن مقاله لمجلة "أتلانتك" في تلك الفترة: "يكافَئ الأسد بشكل فعال لاستخدامه للأسلحة الكيميائية، بدلًا من "عقابه" مثلما كان مخططًا في الأساس"، وتابع: "لقد نجح في تعطيل تهديد العمل العسكري الأمريكي دون تقديم الكثير في المقابل".

حتى المعلقين الذين كانوا متعاطفين على نطاق واسع مع سياسات أوباما اعتبروا ذلك الحدث فاجعةً. حيث أورد جدعون روز، المحرر بمجلة "فورين أفيرز"، مؤخرًا أن تعامل أوباما مع تلك الأزمة – عبر، "الإعلان في البداية دون تحفظات عن تدخلٍ كبير، ثم التردد بشأن الالتزام به، ثم تمرير الكرة على نحو مذعور إلى الكونجرس لاتخاذ القرار – قد مثل دراسة حالة لارتجال الهواة المثير للحرج".

إلا أن المدافعين عن أوباما يرون أنه لم يتسبب بأي ضرر للمصداقية الأمريكية، مستشهدين بالاتفاق اللاحق مع الأسد على نزع أسلحته الكيميائية. "كان التهديد باستخدام القوة ذي مصداقية كافية بالنسبة لهم لدرجة تخليهم عن الأسلحة الكيميائية"، حسبما أخبرني تيم كاين، السيناتور الديمقراطي من ولاية فيرجينيا. وأضاف: "هددنا بالعمل العسكري وهم استجابوا. وتلك هي مصداقية الردع".

قد يُسجل تاريخ 30 أغسطس 2013، بوصفه اليوم الذي منع فيه أوباما الولايات المتحدة من دخول حرب أهلية أخرى وخيمة بين المسلمين، واليوم الذي صد فيه تهديد الهجوم الكيميائي على إسرائيل، تركيا أو اليابان. أو قد يُذكر بوصفه اليوم الذي ترك فيه الشرق الأوسط ينزلق من قبضة أمريكا، ليسقط في يد روسيا، إيران وداعش.

تحدثت مع أوباما لأول مرة بشأن السياسات الخارجية في عام 2006، عندما كان عضوًا بمجلس الشيوخ. آنذاك، كنت على دراية بنص خطابٍ ألقاه قبل ذلك بأربعة أعوام، بمظاهرة مناهضة للحرب بشيكاجو. لقد كان خطابًا استثنائيًا بالنسبة لمظاهرة مناهضة للحرب، لأن الخطاب لم يكن مناهضًا للحرب؛ حيث اعترض أوباما، الذي كان في حينها سيناتورًا عن ولاية إلينوي، فقط على حربٍ محددة، والتي كانت في تلك الفترة لا تزال نظرية. قال أوباما: "لا أتوهم أي شيء بالنسبة لصدام حسين. إنه رجل وحشي، قاسي القلب ... ولكنني أعرف أيضًا أن صدام لا يشكل تهديدًا وشيكًا أو مباشرًا للولايات المتحدة أو جيرانه". وتابع: "أعلم أن غزو العراق دون مبرر واضح ودون دعم دولي قوي سيؤدي فقط إلى تأجيج نيران الشرق الأوسط، وسيحفز الدوافع الأسوأ، وليس الأفضل، للعالم العربي، وسيعزز أعداد المتطوعين بتنظيم القاعدة".

أثارت هوية مؤلف هذا الخطاب فضولي. أردت أن أعرف كيف توصل ذلك السيناتور عن ولاية إلينوي، أستاذ القانون بدوام جزئي، والذي قضى معظم وقته في السفر بين شيكاغو وسبرينجفيلد، إلى فهمٍ أكثر تبصرًا للمستنقع القادم بالمقارنة بمعظم مفكري السياسة الخارجية المخضرمين في حزبه، بمن فيهم شخصيات مثل هيلاري كلينتون، جو بايدن، وجون كيري، ناهيك عن ذكر، معظم الجمهوريين والعديد من محللي وكتاب الشؤون الخارجية، بمن فيهم أنا.
منذ ذلك اللقاء عام 2006، أجريت مقابلات دورية مع أوباما، ناقشنا خلالها بشكل رئيسي الأمور المتعلقة بالشرق الأوسط. ولكن على مدار الأشهر القليلة الماضية، قضيت ساعات عديدة في الحديث معه بشأن المواضيع الأوسع لسياسة "اللعبة الطويلة" التي تبناها فيما تعلق بالشؤون الخارجية، بما في ذلك الموضوعات التي يحرص هو على منافشتها – وتحديدًا، التي ليس لها علاقة بالشرق الأوسط.

أخبرني أوباما في إحدى تلك المحادثات: "لا يعد داعش تهديدًا وجوديًا للولايات المتحدة". بينما "يمثل التغير المناخي تهديدًا وجوديًا محتملًا للعالم بأسره إن لم نتصرف حياله". وأوضح لي أن التغير المناخي يقلقه بشكل خاص لأنه "مشكلة سياسية مصممة بإتقان لصد التدخل الحكومي. كما أنها تمس جميع دول العالم، وتتفاقم ببطء نسبي، لذلك دائمًا ما يكون هناك أمر أكثر إلحاحًا منها على الأجندة".


حاليًا، تعد سوريا بالتأكيد المشكلة الأهم وسط المشكلات "الأكثر إلحاحًا". ولكن في أي لحظة، قد ينقلب مقر رئاسة أوباما بالكامل بسبب التعرض لعدوان كوريا الشمالية، هجوم روسيا على أحد أعضاء الناتو، أو تنفيذ داعش لهجومٍ على الأراضي الأمريكية. واجه القليل من الرؤساء مثل تلك الاختبارات المتنوعة على الساحة الدولية كالتي واجهها أوباما، وقد كمن التحدي بالنسبة له، كحال جميع الرؤساء، في تمييز المشكلات، التي تعتبر ملحة فقط، عن نظيراتها الهامة حقًا، والتركيز على تلك المشكلات الهامة.

نستكمل في الجزء الثاني نظرة أوباما لما تمثله السياسة الخارجية الأمريكية وكيفية رؤيته للعالم.

Share this:

0 comments:

Post a Comment