من كواليس كامب ديفيد: "علشان خاطر كارتر"


لا أود الخوض في وصف أحداث سياسية أو تاريخية، أو سرد تفاصيل ومراحل ما دار خلال 13 يوما قضاها الوفدان المصري والإسرائيلي في غابات كامب ديفيد، بل أحاول تسليط الضوء على بعض المشاهد التي دارت أحداثها إبان توقيع الاتفاقية، مظهرًا نفسيات اللاعبين والعوامل التي أثرت عليهم.
يستطلع الكاتب لورانس رايت، في كتابه "ثلاثة أيام في سبتمبر"، ما دار في كواليس إحدى العلامات التاريخية التي نمى على أساسها الوضع الحالي للشرق الأوسط، وتحديداً العلاقة بين مصر بشكل خاص، والعرب بشكل أعم، والكيان الإسرائيلي المحتل.

لم يقتصر تركيز رايت على الجوانب والأبعاد السياسية، بل تعمق إلى وصف النفسيات والصراعات الداخلية التي أثرت على أعضاء الفريقين، وعلى الطرف الوسيط راعي الاتفاق، الولايات المتحدة الأمريكية. حيث ينسب رايت جذور الصراع إلى طبيعة دينية بحتة، فكارتر، بيجن والسادات "تقويهم دياناتهم وتثقلهم أيضًا". إلا أن ثلاثتهم قد تمكنوا من حل صراع عتيق، أو حله بشكل جزئي على الأقل، ولمدة أجيال، لدرجة صمود المعاهدة في منطقة مزقتها الصراعات بين أبناء الوطن الواحد، بل وأبناء الدين الواحد.

يستكشف رايت السمات الشخصية للأطراف المشاركة، معتمدًا على كتاب الإحاطة الذي قدمته الاستخبارات الأمريكية للرئيس كارتر، فكان السادات "متبصرًا"، حيث رأى نفسه "مفكرًا إستراتيجيًا كبيرًا يحترق كمذنب عبر سماوات التاريخ"، كما فتن السادات بالأفكار والإشارات الكبيرة، فلم يكن "مباليًا بالتفاصيل التافهة". بينما ركز بيجن اهتمامه على أصغر العلامات المميزة، وهو المحامي الماهر. أحب السادات الملابس الملونة، بينما امتلك بيجن بدلتين فضفاضتين رثتين عندما سافر إلى واشنطن لأول مرة. ولما كان السادات مدفوعًا بحلم إعادة كتابة الماضي، كان بيجن غارقًا في الماضي، حيث مال للتأكيد على "المعضلة المأساوية للتاريخ اليهودي"، التي أثقلته بشدة.
لم يتسنى للديموقراطي كارتر مقابلة عربي من قبل، سوى عند جلوسه إلى جانب أحدهم في مراهنة سباق سيارات بدايتونا، كما أنه عرف يهوديًا واحدًا في طفولته، هو عمه لويس. استمد كارتر تصوره للشرق الأوسط من دراسة الكتاب المقدس، لدرجة أن "جغرافيا فلسطين القديمة كانت مألوفة لديه ... أكثر من معظم الولايات المتحدة". عندما وصل كارتر إلى البيت الأبيض عام 1977، أعطى الأولوية إلى السلام في الشرق الأوسط، واعتقد أن "الرب أراد له أن يجلب السلام"، إلا أن ذلك أدى، على الجانب الآخر، إلى هبوط اقتصاد الولايات المتحدة، لتهبط معه أصوات المؤيدين.
شمل الوفد الإسرائيلي من يعتبرونه بطلًا في الكيان المحتل موشيه ديان، ونجم سلاح الطيران الإسرائيلي عيزر فيتسمان، وهما اثنان من قدامى المحاربين المتصلبين، إلا أنهما كانا أكثر انفتاحًا تجاه المعاهدة من رئيس وزرائهما. بينما أرسل المصريون وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل، والأرستقراطي القبطي بطرس بطرس غالي، الذين قضيا وقتًا في تكهن الحالة المزاجية لرئيسهما، مماثلا للوقت الذي قضياه في تأمل الموقف الإسرائيلي.
استمد السادات قوته أيضًا من حسن التهامي، وكيل المخابرات الأسبق، الذي كان له دور "المنجم، مهرج القصر والمعلم الروحي" للسادات، حيث تفاخر التهامي بقدرته على مغادرة جسده والسفر خارج العالم المادي. جدير بالذكر أن التهامي قد قضى الكثير من وقته في كامب ديفيد محاولا إقناع بطرس بطرس غالي بالإسلام.
إلا أن التهامي لعب دورًا هامًا في تدشين المفاوضات، وإن كان ذلك بناء على تقارير استخبارتية خاطئة، فبعد لقاء سري جمع بينه وبين بيجن في المغرب عام 1977، بترتيب من الملك حسين الثاني، قال التهامي للسادات إن بيجن قد خطط للانسحاب من جميع الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد عام 1967 – وهو تقرير خاطئ شجع السادات على السفر إلى القدس. أي أنه من الوارد أن تكون عملية السلام في الشرق الأوسط خاضعة لسوء فهم رجل مجنون، حسبما يعلق رايت.
استهل السادات المفاوضات في غابات كامب ديفيد بموقف متشدد، حتى يسكت أعضاء فريقه في البداية، ثم ينتقل إلى مواقف أكثر اعتدالًا، لدرجة أنه قال لكارتر في اليوم الأول إنه مادامت إسرائيل ستنسحب من سيناء، يستطيع كارتر أن يتفاوض عنه على بقية الشروط. وفي المقابل، قدم بيجن مشروعا متشددًا للغاية منذ البداية وظل متمسكًا به، حتى فيما يتعلق بالانسحاب من سيناء.
مما يصعب إخفاؤه أن السادات كان الطرف الأضعف في المفاوضات، فلاحقًا وبعد أشهر من توقيع المعاهدة وأمام المماطلة في تنفيذ البنود كان الحل أمام كارتر متمثلًا دائما في الضغط على السادات لتقديم تنازلات، وهو ما نجح فيه بالفعل.
تبنى كارتر دورين في كامب ديفيد، فبعد أن كان "مستشارًا"، وأمام تعنت الطرفين وعنادهما، تبنى كارتر دور "المحفز"، ناويًا إصدار اقتراحات، أو تهديدات بالنيابة عن الولايات المتحدة، إن كان ذلك ضروريًا.
في مواجهة تعنت بيجن، قرر السادات في يوم الجمعة 19 سبتمبر الانسحاب من القمة، كوسيلة كان قد خطط لها مسبقًا للضغط على كارتر للقبول بشروطه، فكان رد كارتر على السادات أن انسحابه سيعني انتهاء العلاقة بين الولايات المتحدة ومصر، وكذلك انتهاء علاقتهما الشخصية، فآثر السادات البقاء، ببساطة. ليقضي الاثنان تلك الليلة في مشاهدة مباراة محمد علي كلاي سويًا.
كما يرصد بطرس بطرس غالي، الذي دعم موقف الرئيس السادات حتى النهاية، في مذكراته ما وصفه بـ"ظاهرة "علشان خاطر كارتر""، حيث كان رد السادات كلما تعارض أحد الشروط مع رأي بعض أعضاء الوفد المصري، "علشان خاطر كارتر".
يجدر ذكر أحد المواقف التي أظهرت طبيعة الشخصية التي حملها السادات خلال المفاوضات، فأثناء مؤتمر توقيع معاهدة كامب ديفيد، قال بيجن معلقًا على التوقيع ومراحل التفاوض: "لقد بذلنا في سبيل توقيع الاتفاقية جهودًا أكبر من التي بذلها أجدادنا في بناء الأهرامات في مصر". فضحك الجميع، وقهقه السادات محييًا بيجن.


مصادر:

Share this:

0 comments:

Post a Comment