Mahmoud Aly's

Home Archive for September 2016
المادة الأصلية

تعليق المترجم: هذا النص لألبيرت بوديل، وهو الرجل الذي زار، حرفيًا، جميع دول العالم، ويحكي هنا عن "أصعب" تسع دولٍ زارها، والتي للمفاجأة، من وجهة نظري كمصري، لم تتضمن مصر. وفي حال كنت تتساءل، فإنه عمل سابقًا محررًا بمجلة "بلاي بوي".

خلال الصيف الماضي، كنت على متن طائرة تابعة للخطوط الملكية المغربية بينما تهبط، قادمة من الدار البيضاء، في مطار مالابو الدولي في غينيا الاستوائية، عند ذلك كنت قد أتممت رحلة استمرت لخمسين عامًا، لقد زرت رسميًا، وبشكل شرعي، جميع الدول المعترف بها رسميًا حول العالم.

أقصد بذلك مائة وستًا وتسعين دولة: مائة وثلاث وتسعين دولة الأعضاء بالأمم المتحدة، بالإضافة إلى تايوان، الفاتيكان، وكوسوفو، فبينما لا تمثل تلك الدول أعضاءً، يعترف بها كدول مستقلة، إلى درجات متفاوتة، من قبل لاعبين دوليين آخرين.

خلال العقود الخمسة من الترحال، عبرت دولًا باستخدام الـ"ريكاشة" الهندية، الأتوبيس، السيارة، الشاحنة الصغيرة، والـ"بوش تاكسي"؛ كما عبرت بضع دولٍ مستقلًا القطار (إيطاليا، سويسرا، مولدوفا، روسيا البيضاء، أوكرانيا، رومانيا، واليونان)؛ ودولتين باستخدام القارب النهري (الجابون وألمانيا)؛ أما عبور النرويج فكان بالباخرة الساحلية؛ ونقلني الزورق ذو المحرك عبر جامبيا والمناطق الأمازونية من بيرو والإكوادور؛ وجلت نصف بورما مستقلًا "سكوتر".

تجولت في كامل أنحاء جامايكا على دراجة نارية، أما ناورو فعلى دراجة هوائية. كما عبرت ثلاث دول صغيرة سيرًا على الأقدام (الفاتيكان، سان مارينو، ليشتنشتاين)، وأجزاء من دول أخرى مستقلًا الحصان، الجمل، الفيل، اللاما، والحمار.

أعترف بأنّي لم أزر جميع الجزر الـ7107 في أرخبيل الفلبين، أو معظم الجزر، التي يتجاوز عددها سبعة عشر ألف جزيرة، التي تشكل أندونيسيا، ولكنني آتيت حصتي من الرحلات الخطرة مستقلًا العبارات الصدئة الكسيحة فيما بين الجزر، والتي تقرأ عنها في الصفحات الخلفية من صحيفة "تايمز" تحت عنوان "عداد المفقودين يصل إلى أربعمائة شخص إثر غرق سفينة في بحر سولو".

خضت مئات المغامرات داخل تلك البلاد، ولكن بالنسبة لبعض الدول المحددة، بدأت المغامرة قبل حتى أن أبلغها. لقد علمتني الصعوبات التي واجهتها أثناء محاولتي استخلاص تأشيرة الدخول السياحية، بشأن تلك الأماكن التي لم أزرها بعد، وعلاقاتها بالعالم الأوسع.

(الحصول على تأشيرة لدخول كوريا الشمالية المنعزلة على نحو معروف لم يكن حقًا بتلك الصعوبة؛ فالولايات المتحدة لا تمنع مواطنيها من زيارتها، وتحب حكومة كوريا الشمالية الأموال الأمريكية ويسرها أن تمنح التأشيرات، رغم احتقارها لأمريكا – إلا أن ذلك يكون من خلال جولات مكلِفة وتقدم بشكل حصري بعد موافقة الحكومة).

إليكم الدول التسع التي واجهت أكبر الصعوبات في الحصول على تأشيرات دخولها:


المملكة السعودية
كانت السعودية صعبة بالفعل. فقد حاولت بين عامي 2000 و2009، وفشلت في، الحصول على تأشيرة سياحية لزيارتها، أو حتى في معرفة سبب رفضي – فحتى تلك الفترة لم يكن للهيئة السعودية للسياحة والآثار أي سابقة في منح تأشيرات سياحية لغير المسلمين.
ولكن لأنه كان عليَّ أن أحصل على مبتغاي، قلقت من أنني قد اضطر للتحول إلى الإسلام، وأن أحفظ القرآن، وأدرس لدى شيخ، وأواظب على زيارة المسجد، وأن أنسى أنني ملحد يهودي شديد التحرر.
أصبح ذلك محبطًا بشكل خاص عام 2011، عندما كنت في البحرين، حيث يفصلني عن السعودية قطع مسافة قصيرة بالسيارة على طريق الملك فهد السريع. بعد أن فشلت مجددًا في الحصول على التأشيرة، أخبرني أخيرًا موظف قنصلي سعودي، صريح على نحو غير معتاد، بالسبب. قال الموظف بإيجاز: "لدينا الكثير من أموال النفط، لذا لا نحتاج إلى الدولارات السياحية القليلة خاصتك.
لدينا مليونا حاج مسلم سنويًا يؤدون الحج، ولا يتسببون في مشكلات.
بعض مواطنينا المحافظين لا يريدون أن يأتي الغربيون غير المسلمين ليثيروا شعبنا بالأفكار الليبرالية. وبالتأكيد لا نسعى لتشويه صورتنا في حال تعرضت للإصابة أو القتل في بلدنا على يد أحد المتشددين".
أخيرًا، توصلت إلى وكالة سياحية حسنة العلاقات في ميشيجان، والتي رتبت لي الوصول إلى الأراضي السعودية متنكرًا ضمن فريق يدرس تحت توجيه أستاذٍ في علم الآثار وخبير في العدادات الطينية الصغيرة المستخدمة لحفظ الحسابات المالية في الشرق الأوسط منذ حوالي سبعة آلاف عام. جدير بالذكر أن الرحلة وترتيباتها قد انتقصت من أموالي الخاصة تسعة آلاف دولار.


كيريباس
عندما أردت تقديم طلبٍ للحصول على تأشيرة دخول كيريباس عام 2006، وجدت أنها أصغر وأفقر من أن يكون لها سفارة في الولايات المتحدة. بدلًا من ذلك، أنشأت الدولة الضئيلة ثمان "قنصليات شرفية" مبعثرة حول العالم، وتم توجيهي لقنصل في الهونولولو، والذي عادة ما يكون خارج السفارة يمارس ركوب الأمواج. إلا أنني نجحت في النهاية في الحصول على التأشيرة من القنصل في فيجي، بينما كنت في الطريق إلى دولٍ أخرى في جنوب المحيط الهادي.
أصبح الوضع أسهل كثيرًا اليوم. فمنذ سنوات، لم يعد يتطلب دخول كيريباس تأشيرةً للمواطنين الأمريكيين المقيمين لأقل من شهر.


تشاد
يطَالب المتقدم للحصول على تأشيرة تشاد بتقديم رسالةٍ من طرفٍ راعٍ أو فندق في عاصمة البلاد، نجامينا، والتي تشتمل على دعوة للزائر، وتوضح العلاقة بينهما والهدف من الرحلة.
عندما زرت تشاد عام 2012، كانت تلك الرسائل تصدر من خلال فندقين أو ثلاثة فقط، ومن أجل الحصول عليها، اضطررت أن أحجز، وأن أدفع مقدمًا مقابل غرفة، غير قابل للرد، بقيمة 300 دولار لكل ليلة.
إلا أن مشكلات الدخول لا تنتهي بعد الحجز.
فمباشرة بعد وصولي إلى مطار نجامينا، اقترب مني ضابطٌ مرتديًا زيه النظامي ولوح بيده مع فرك إبهامه بأصابعه مطالبًا إياي برشوته، حيث طلب رشوة بقيمة خمسين دولارًا حتى يدعني أغادر المطار.
أخبرته بأقوى ما أوتيت من الفرنسية، أنني قد دفعت ثمن تأشيرتي بالفعل.
ولكنه لم يكن متأثرًا، لا بحجتي ولا بفرنسيتي، وكرر طلبه.
لجأت للكذب وقلت له إن سفير التشاد في الولايات المتحدة قد طمأنني أنه ليس علي دفع المزيد من الأموال لدخول التشاد.
فنظر إليَّ كما لو كنت ساذجًا وألح الطلب.
طلبت منه أن يريني اللائحة التي تلزمني بالدفع. ما جعلني في نظره مثيرًا للمشكلات.
قلت له إنني سأدفع فقط إن أعطاني إيصالًا موقعًا.
اختنق الضابط بالضحك وتشارك المزاح مع اثنين من زملائه، اللذين كانا في انتظار نصيبيهما.
عندما قارب موعد انتهاء ورديته، وكذلك موعد نفاد صبري، انخفضت قيمة الرشوة إلى خمسة عشر دولار.
كان معي عشرون دولار فقط، فأعطيتها له وطلبت منه الباقي. عندها سمعت أكبر ضحكة في اليوم ولوح لي بأن أذهب إلى داهيةٍ.


ناورو
بالنسبة لي، كان الحصول على تأشيرة دخول ناورو مستحيلًا بين عامي 2001 و2007.
فمنذ أواخر الستينيات وحتى مطلع السبعينيات، كان سكان تلك الجزيرة الصغيرة في المحيط الهادي هم الأثرى على وجه الأرض من حيث نصيب الفرد، بسبب الرواسب الكثيفة والقيّمة من مخلفات الطيور التي خلفتها الطيور البحرية الآكلة للأسماك على مر العصور.
نضب آخر تلك المصادر الغنية بالفوسفات بحلول عام 2006، وأجبر سكان ناورو الذين أفقروا فجأة على كسب رزقهم بطرق أخرى.
في البداية أصبحت البلاد ملاذًا ضريبيًا آمنًا ومركزًا مزعومًا لغسيل أموال المجرمين الروس. ثم أسست معسكرات اعتقال للاجئين كجزء من سياسة "الحل في المحيط الهادي" لمنع اللاجئين من الوصول أو البقاء في أستراليا، وأغلقت بشكل فعال حدودها أمام جميع الراغبين في الحصول على التأشيرة دون موافقة المفوض السامي الأسترالي، لمنع الأجانب من مراقبة أوضاع المهاجرين.
خففت ناورو تلك القيود إثر الإنهاء الرسمي لسياسة "الحل في المحيط الهادي" عام 2008. رغم أن الدولة لا تزال مكبًا للكثير من الساعيين للجوء، إلا أنها مركزة الآن على المؤسسات الشرعية، بما في ذلك السياحة، ما يسهل بشدة الحصول على التأشيرة – رتبت الخطوط الجوية التابعة للجزيرة رحلتي، وزرتها أخيرًا عام 2011.
ولكن ما لم تكن في خضم مهمة زيارة جميع دول العالم، فقد تود أن تتجنب تلك الفوضى الملغومة غير الجذابة.


روسيا
ما كانت روسيا لتصل إلى هذه القائمة، ولكن عند الإقدام على زيارتي الرابعة لها عام 2010، اكتشفت عائق كوني أمريكيًا يرغب في دخول أراضي بوتين: بينما يستطيع جميع شعوب العالم أن يتقدموا للحصول على تأشيرة دخول روسيا عبر نموذج من صفحةٍ واحدة يحوي واحدًا وعشرين سؤالًا، يتعين على المواطنين الأمريكيين استخدام، على نحو مجهد، "نموذجًا جديدًا يطبق على أساس المعاملة بالمثل"، والذي يحوي واحدًا وأربعين سؤال عادة ما تكون تطفلية.
تشمل تلك الأسئلة: تفاصيل خط سير الرحلة؛ اسم الشخص أو المنظمة المقدمة لثمن الرحلة؛ أسماء جميع الدول التي زارها مقدم الطلب خلال السنوات العشر الأخيرة (والتي كانت تسع وتسعين دولة بالنسبة لي)؛ آخر ثلاثة أماكن عمل بها مقدم الطلب؛ جميع المؤسسات التعليمية التي درس بها مقدم الطلب؛ جميع المؤسسات الاحترافية، المدنية، والخيرية التي ينتسب إليها أو "تعاون معها" مقدم الطلب؛ أسماء جميع أقارب مقدم الطلب في روسيا؛ تفاصيل أي تدريب على الأسلحة، المتفجرات، الأسلحة النووية، و"المواد البيولوجية والكيميائية" (والتي ستتضمن كل شئ بدءًا بأسيدوفيلوس اللبن وحتى المنظفات المنزلية)؛ تفاصيل الخدمة العسكرية لمقدم الطلب، بما في ذلك الرتبة وموقع الخدمة.
لتجنب عقوبة الرفض الفوري للفشل في الإجابة على جميع الأسئلة، ورغم أنني اعتقدت أن السؤال الأخير لم يكن من شأن الكرملين، كتبت في الاستمارة مع حفظ إخلاصي لبلادي، أنه عندما أديت الخدمة العسكرية، ساعدت بفخر ووطنية في كتابة وتحرير الكتيب الرسمي للجيش الأمريكي بخصوص بناء المراحيض. (مع الأسف، ورغم حسن نواياي، لم يدع ذلك مجالًا لإضافة أنني رُقيت لاحقًا إلى رتبة رقيب، وحصلت على ترخيص سري للغاية، وأصبحت رئيسًا لإحدى فرق المدافع الذرية).


الصومال
دُمرت الصومال إثر عقودٍ من الحرب والإرهاب، لذلك فإنها تحتاج بالتأكيد إلى دولارات السياحة، ولكن حكومتها لا تريد أن تشهد قتل أو اختطاف السياح. ومع ذلك، يوجد القليل من الفنادق وبيوت الضيافة، رغم أنها تقدم خدماتها بشكل رئيس للدبلوماسيين والمؤسسات غير الحكومية، فإنها تهتم أيضًا بالتأشيرات المدرة للأموال.
يمكنهم أيضًا حجز أربعة على الأقل، ويفضّل ستة، من الحراس المسلحين الذين سيشكلون حائط دفاع حولك، بينما يكون قائدهم إلى جوارك، ماسحًا الأسطح من خلال عدسات التقريب بحثًا عن القناصة. كلفني هذا الفريق المسلح، إلى جانب سيارتي دفع رباعي مضادتين للرصاص على اتصال دائم عبر اللاسلكي، سبعمائة وخمسين دولار يوميًا في فترة زيارتي عام 2012. ارتفعت التكلفة منذ حينها إلى ألف وثلاثمائة وخمسين دولار يوميًا، مع مساحة ضئيلة للتفاوض.
يعتبر الفريق شبه ضروري للحصول على التأشيرة، بما أن الحكومة لن تقدمها لك إلا إن كانت مرتاحةً بشأن أنك ستكون محميًا. أظن أن الزيادة الحادة الأخيرة في السعر نتيجة لازدياد نشاط حركة الزوار، أو الخطر المتزايد.
صاحبني الحراس، رغم حثهم لي على التحرك سريعًا حتى لا أكون هدفًا سائغًا للمختطفين، في مسيرة ساعة على الـ"ليدو"، وهو أحد أجمل السواحل المتكونة من الرمال البيضاء دقيقة الحبيبات التي غسلها الموج، محفوفة بالفيلات التي كانت فاخرة فيما مضى، إلا أن حوائطها الأربعة لم تبق سليمة، وكذلك زجاج النوافذ.


السودان
مثلت السودان حجر عثرة صَعُب تجاوزه. فبين عامي 2004 و2007، كلما سألت السفارة السودانية في واشنطن عن حالة طلبي للحصول على التأشيرة، وصلني نفس الرد المقتضب: "يجرى النظر بشأنه في الخرطوم".
الحكومة السودانية متحفظة ومصابة بجنون الارتياب. فقد رعت إبادة جماعية ضد غير العرب، والتي أزهقت أرواح مئات الآلاف في منطقة دارفور منذ عام 2003، ويظل بعض كبار قادتها، بمن فيهم الرئيس، على قائمة المطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية.
يبدو واضحًا الآن سبب كونهم ممانعين لوجود السياح المدججين بالكاميرات في أنحاء البلاد، كما أنهم يحددون بشدة عدد الزوار، والأماكن المسموح لهم بوطئها، وعدد الصور المسموح لهم بالتقاطها.
فقدت الأمل في النهاية في الإجراءات الرسمية ووجدت طريقًا (بصحبة كاميراتي) بمساعدة صديق في الأمم المتحدة، الذي أوصلني بمسؤول في جامعة الدول العربية، ليوصلني الأخير بشخصية غامضة "سهلت" دخولي عام 2008 عن طريق عبور العديد من أشجار النخيل بما يلزم من الفضة لشراء التأشيرة.
يمكن للفنادق الصومالية أن تحجز لك ما يصل إلى ستة حراس مسلحين، والذين سيشكلون درعًا دفاعيًا حولك.
كذلك كان الأمر بالنسبة لليمن صعبًا لفترة طويلة.
فبعد إحباطي لسنوات عديدة في سبيل الحصول على التأشيرة بعد الاضطرابات التي لحقت أحداث الربيع العربي واستقالة المستبد السابق، علي عبد الله صالح، في نوفمبر 2011، تمكنت من تجاوز عقبة التأشيرة والدخول بشكل شرعي أثناء برهة نادرة من السلام النسبي في يناير 2014.
ولكن إثر الإطاحة بالحكومة على يد المتمردين الحوثيين بحلول نهاية نفس الشهر، أغلقت تلك النافذة بضبة ومفتاح للوقت الراهن.


أنجولا
كانت أنجولا الأصعب إطلاقًا ضمن الدول التي زرتها. فسياساتها الشحيحة لمنح التأشيرات عكست اعتقادًا واسع الانتشار بأن الزوار الأجانب يريدون فقط سرقة كنوز البلاد.
علاوة على ذلك، امتنعت الحكومة الأنجولية بشكل شبه كامل عن منح التأشيرات السياحية للأمريكيين بسبب دعم أمريكا للمتمردين الأنجوليين في حرب أهلية بدأت عام 1975 واستمرت سبعة وعشرين عامًا، وأودت بحياة نصف مليون شخص. لم يمنح لأي شخص أعرفه تأشيرة دخول خلال السنوات التي حاولت خلالها استخراج واحدة، أي بين عامي 2004 و2008.
تمكنت أخيرًا من دخول أنجولا في ديسمبر 2012 عبر صلة حديثة التكون مع مدير تنفيذي أنجولي رفيع المستوى، والذي تمكن من تحريك بعض الخيوط في وزارة الخارجية الأنجولية.
لم أجد الكثير في لواندا لأراه باستثناء الزحام الشديد والرافعات الصفراء المرتفعة، ذلك لأن البلاد كانت في خضم نوبة بناء يغذيها النفط. كما أن المناطق الريفية التي زرتها تمتعت بالقليل من الجمال الطبيعي، وتعرض معظم الحيوانات البرية للقتل إبان الحرب الأهلية؛ علاوة على أن سعر الهدايا التذكارية كان أعلى خمس مرات من أسعار الأغراض المشابهة في الدول الأخرى؛ ووجدت المطبخ الأنجولي، المستوحى من البرتغالي، رتيبًا ومملًا؛ وعند طلبي أخذ بقية طعامي معي إلى الفندق، كلفني ذلك خمسة دولارات إضافية.

كانت أنجولا آخر دولة في العالم لم أزرها مطلقًا. (سيتطلب الأمر سنتين إضافيتين لزيارة جميع الدول بشكل قانوني – فقد تسللت إلى اليمن وغينيا الاستوائية، قبل العودة عام 2014 بالأوراق اللازمة لجعل الزيارة رسمية).
لم تكن الرحلة المفضلة لي مطلقًا، ولكن كحال جميع الدول في هذه القائمة – من ناورو التي دمرها الحجر الجيري إلى الصومال بأعشاش المدافع الرشاشة التي تحيط مقديشو – مثلت خطوة ضرورية في رحلة طوافي للعالم كله.

ذلك الشاعر المحبب، يكتب الأبيات لا يلقي لها بالًا، ربما كتبها وفكر في أن يمزق صفحتها، لكنه لم يفعل، وبطريقة ما، نجحت الأبيات المشحونة في بلوغ هدفها، فتهوي الأبيات على قلبي المسكين كما تسقط المطرقة دفعًا على الحجر الرملي المسكين، بالتأكيد لم يختر الحجر بيته، لكنه كان، كحالي في معظم الأحيان، في الزمان أو المكان الخاطئ، لم يدر الحجر المسكين أنه جزء من أدوارٍ زائدة يبغضها جبابرة الحي البيروقراطيون، ولا غضاضة في ذلك جزئيا، فهذه الأدوار تهوي بكامل البناء على رؤوس ساكنيها المساكين، أما النصف الآخر الخاوي من الكوب، ألا مشكلة لديهم في ذلك، فقط على الحوت المالك أن يرمي لهم سمكةً ليسدوا بها رمق جشعهم. يأتي الجبار الصغير، الذي يعمل لدى الجبابرة الكبار، ليقوم بالمهمة، فيحمل مرزبته ويرفعها بحماس غير المكترث بعواقب مغامرته، ويهوي بها على كتف الحجر المسكين فيدفعه عن ذلك الدور العالي ليسقط الحجر متألمًا فيتفتت كأنما برء حاله، ليرتاح أخيرًا من ذلك الصراع الداخلي المرير..

لا أدري لماذا فعلت أبيات الشاعر المحبب نقيض ذلك بقلبي. يبدو كما لو أن الأمر يحدث بالعكس معه، هذا القلب يوم وقّعت على استلامه وأخبرني الملاك مساعد الرب أنه عهدتي في هذه الدنيا، وأنه يجب أن أحفظه كما أحفظ قلبي، كان بارئً من كل سوء، لكنني في كل مرةٍ مررت ببلدة، أمر عبر أحد الجسور المغوية، الذي أكتشف لاحقًا أنه فخٌ نصبه سكان البلدة ليجذبوا المغفلين أمثالي، فأقع في كل مرة في شركٍ نصبه سكان بلدة ما، أدخل البلدة حاملًا قلبي في يد وسيفي في الأخرى، لكن من قال إن الشجاعة تكفي. أقف بانتباه جندي وبرقبة بومة ليلية، أرى هذه الجميلة تأخذني من بعيد بعينيها، أين هؤلاء الجبناء؟! لابد أنهم قد رحلوا، أو خرجوا للحرب، ومن يخرجون للحرب لا يعودون، أو لا يعودون كما خرجوا على الأقل، لكن المهم أنهم تركوا لي الجميلة، أضحك ضحكة المنتصر على هؤلاء الكرام المغفلين، لا بد أنهم سمعوا عن بطولاتي التي لم أظفر بها، والخاسر ليس لديه ما يخسره، فآثروا اتقاء شري..

 أركض إلى الجميلة، التي انزوت وراء الجدار، لا بد أنها ستقودني إلى بيتها، ألهث ورائها، انتظري أيتها الجميلة..

 يقولون إن أنثى أحد أنواع العناكب تقتل ذكرها بعد أن ينكحها، لكننا لسنا عناكب، وأنا لم أدخل عش العناكب، لا بد أنني أخطئت المنزل مجددًا، فأنا أبرع دائمًا في دخول أعشاش الدبابير، والحداء التي لا ترمي كتاكيتًا، ربما يفسر هذا غياب بعض أجزاء ملابسي، وأجزائي، ففي النهاية، الحدأة لا ترمي الكتاكيت..

 كنا نجلس أربعتنا، أنا وأصدقائي الثلاثة، والكتاكيت بالطبع، بينما خرجت الحدأة في مهمة عمل وتركتنا نستعد لنؤكل بعد يوم عملٍ شاق، بملابسنا الداخلية، حاولنا خلق حديث مع الكتاكيت الجميلة المتوحشة، هذا كتكوت ينقر حمالة صدر صديقتي، لا بد أنها علامة سيئة، يبدو ذلك معادلًا لعجز أحدهم عن فك حمالة صدر رفيقته، بالتأكيد هي علامة سيئة، تبًا لم يكن من المفترض أن أستيقظ اليوم، أو أن أدخل هذا العش بالذات، أجد نفسي عالقًا في لعاب الأدرينالين الذي أغرق العش، وهذه دعوة أخرى للحدأة لتعذبنا قبل أن يفتك أطفالها غير الشرعيين بنا، بالتأكيد هناك حل ما، لا بد أن كل هذه الأعاصير برأسي حلول تعقدت ببعضها البعض، حسنا سأهدأ لأفكك هذه الخيوط وبالتأكيد سأفصّل الحلول..

أصدقائي منهمكون في حماية ملابسهم الداخلية وحمالات صدورهن، أيها الأغبياء ما نفع الملابس الداخلية والحمالات أمام مناقير الكتاكيت! وجدتها! إنه بوبوص، هذا الصوص الجميل الذي اشترته لي أمي قبل عشرة برتقالات، بالتأكيد تألف الصيصان الكتاكيت وإن حكيت لهم قصة صديقي بوبوص سيرفضون أكلنا، صحيح أن أمي أعدته لنا غداءً ذات يوم بعدما كبر، لكنني لم أكن أعرف أنها ستذبح صغيري بوبوص، اللعنة إنها الكارما الشرموطة، بالأمس أكلنا بوبوص اليافع على مأدبة غداء، واليوم يأكلنا أولاد الشرموطة، حسنًا هذه بالتأكيد علامة وجوب الاستسلام لمصيرنا، أحب اتباع الإشارات، كم أود أن أحكي عن مواقفي الكثيرة مع الإشارات الوحيوية! لكن ليس في دقائق حياتي الأخيرة بالتأكيد، ربما ليس اليوم. هذه هي النهاية إذن..

مهلًا! ماذا لو قفزنا عن العش؟ لا أعلم قدر ارتفاعنا عن الأرض لكن ما همنا إن كان الموت مآلانا في الحالتين. مجددًا، الخاسر ليس لديه ما يخسره. يا لنا من أغبياء، بالتأكيد هو الخوف الذي جمّد الدماء في عروقنا ومنعنا من التفكير، تشبثوا بملابسكم الداخلية وحمالات صدوركن، سنهبط هنا. جعلتهن يخلعن حمالات صدورهن لنستخدمها كمناطيد، وما أجمل من الهبوط وسط أثداء الفتيات المتلاعبة، حسنًا هذه ميتة لا بأس بها، أنا مستعد..
كانت رحلة الهبوط طويلة، لكننا وصلنا أخيرًا، يبدو مهبطنا كحجر، من ذلك النوع الرملي المسكين الذي أعرفه، يبدو هذا كدورٍ من تلك الأدوار الزائدة، احا، لماذا يرفع هذا الجبار الصغير مرزبته قبالة الحجر الرملي المسكين، احا..

"نعيش في مجتمعٍ يرى ارتفاع الاحترام للذات كدليلٍ على السعادة، لكننا لا نريد أن نكون مقربين من ذلك الشخص المرغوب فيه والمثير للإعجاب".

ماريا بوبوفا - المادة الأصلية


إن كانت احتمالات أن يجد المرء توأم روحه كئيبة جدًا على نحوٍ مخيف، وإن كان سر الحب الدائم هو إلى حدٍ كبير مسألة امتياز استثنائي، فهل يعد مفاجئً أن عددًا متزايدًا من الأشخاص يختارون أن يمضوا بمفردهم؟ اختيار الانعزال، الانزواء النشط، له علاقة ليس فقط بالرومانسية بل بكل الروابط الإنسانية – حتى إيمرسون، وهو ربما بطل الصداقة الأكثر بلاغة باللغة الإنجليزية، عاش جزءً كبيرًا من حياته في انعزالٍ نشط، وهي الحالة المحددة التي سمحت له بإنتاج يومياته ومقالاته المستمرة. ومع ذلك، فإن هذا الاختيار تعامله ثقافتنا بأذرعٍ متساوية من التخوّف والازدراء، خصوصًا في عصرنا، عصر الولع الشهواني بالاتصال. ربما يكثر الاستشهاد بالتأكيد المعروف لهيمنجواي على أن العزلة أمرٌ أساسي من أجل العمل الإبداعي لأنه راديكالي جدًا ومربكٌ في طرحه.

روت صديقةٌ مؤخرًا حكايةً توضيحية: ذات مساءٍ أثناء انسحاب قصيرٍ لها في المكسيك وحدها، ولجت مطعمًا محليًا وطلبت الجلوس. حين أدركوا أنها سوف تتناول الطعام وحدها، رافقها الندلاء إلى مؤخر المطعم بمزيجٍ من الارتباك والشفقة، حتى لا تميّع منظر الملتجأ الخادع المصمَم بعنايةٍ من الهناء المزوّج. (جدير بالذكر أن هذه الواقعة المقلقة، المتعلقة بالوصم بالعزوبة بقدر ما هي متعلقة بالفشل العميق في احترام فن أن تكون وحيدًا، يُعد مرجحًا أكثر بكثير أن تواجهها المرأة مقارنة بالرجل؛ وتعيش بعض النساء ليحكين عن الأمر).

يُقابَل الانعزال، الذي نختاره بأنفسنا، بإصدار الأحكام، ويُستعبد بالوصم. كما أنه يمثل قدرةً ضروريةً كليًا من أجل عيش حياةٍ كاملة.
تمثل تلك المفارقة ما تستكشفه الكاتبة البريطانية سارا ميتلاند في كتابها "كيف تكون وحيدًا" (How to Be Alone). فبينما تعيش في منطقة من اسكتلاندا بها واحدة من أقل الكثافات السكانية في أوروبا، حيث يقع أقرب سوبر ماركت على بعد أكثر من عشرين ميلًا، وليس هناك شبكة خلوية (فكر بذلك قليلًا)، لم تكن ميتلاند دائمًا منعزلة – فقد نشأت في أسرةٍ متماسكة كبيرة واحدةً بين ستة أطفال. ولم يكن حتى أصبحت مفتونة بفكرة الصمت، موضوع كتابها السابق، أن وصلت، بشكلٍ منحرف، إلى الانعزال. حيث تكتب ميتلاند:

"لقد فُتنت بالصمت؛ بما يحدث للروح البشرية، للهوية والشخصية عندما يتوقف الكلام، عندما تضغط على زر الإطفاء، عندما تغامر بالخروج إلى الفراغ الهائل. كنت مهتمةً بالصمت كظاهرة ثقافية مفقودة، كشيء من الجمال وكمساحةٍ استُكشفت واستُخدمت مرارًا وتكرارًا من قبل أفرادٍ مختلفين، لأسباب مختلفة وبنتائج مختلفة على نطاقٍ واسع. بدأت باستخدام حياتي الخاصة كمختبر لتجربة بعض الأفكار ولأكتشف ماهية ذلك الشعور. ما أدهشني تقريبًا هو اكتشاف أنني أحببت الصمت. لقد ناسبني. وطمعت في المزيد منه. وضمن سعيي وراء المزيد من الصمت، وجدت هذه القرية وبنيت منزلًا هنا، على أنقاض كوخ راعٍ قديم".


لكن اهتمام ميتلاند بالانعزال مختلفٌ بشكلٍ ما عن اهتمامها بالصمت – فبينما اهتمامها بالانعزال خاصٌ في منشأه، ينبع ذلك الاهتمام من قلقٍ يواجه العامة بشأن الحاجة إلى معالجة "مشكلةٍ نفسية واجتماعية خطيرة متعلقة بالانعزال"، رغبة في "تهدئة مخاوف البشر ثم مساعدتهم بشكل نشط في الاستمتاع بالوقت الذي يقضونه منعزلين". وهو ما تفعله ميتلاند، عبر طرح السؤال "الزلق" المحوري المتعلق بهذا المأزق:

"كون المرء وحيدًا في مجتمعنا الحالي يثير سؤالًا هامًا حول الهوية والسعادة.
(...)
كيف وصلنا، في عالمٍ متقدمٍ مزدهرٍ نسبيًا، على الأقل، إلى لحظةٍ ثقافية تقدّر الاستقلالية، الحرية الشخصية، الإنجاز وحقوق الإنسان، وفوق كل ذلك الفردانية، بشكلٍ غير مسبوق في تاريخ البشرية، ولكن في الوقت ذاته يعد هؤلاء الأفراد المحققون لذواتهم، الأحرار والمستقلون مرعوبين من أن يكونوا وحيدين مع أنفسهم؟
(...)
نعيش في مجتمعٍ يرى ارتفاع الاحترام للذات كدليلٍ على السعادة لكننا لا نريد أن نكون مقربين من ذلك الشخص المرغوب فيه والمثير للاعجاب.
نرى الاتفاقات الاجتماعية والأخلاقية كقيود على حرياتنا الشخصية، ومع ذلك نرتعب من أي شخصٍ يبتعد عن الحشد ويطور عاداتٍ "غريبة الأطوال".
نعتقد أن كل شخص لديه "صوت" شخصي فريد وهو، علاوة على ذلك، مبدع بلا شك، لكننا نتعامل بشكٍ قاتم (في أحسن الأحوال) مع أي شخص يستخدم أحد الأساليب الراسخة بوضوح لتطوير هذا الإبداع – الانعزال.
نظن أننا فريدون، مميزون ونستحق السعادة، لكننا مرعوبون من أن نكون وحدنا.
(...)
يفترض بنا الآن السعي وراء إنجازنا الذاتي، تتبع مشاعرنا، تحقيق الأصالة والسعادة الشخصية – لكن، على نحو غامض، ألا نفعل ذلك وحدنا.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحمل الاتهام حكمًا أخلاقيًا ومنطقًا ضعيفًا".

ما يثير الفضول، والمهم، هو أن إتقان فن الانعزال لا يجعلنا أكثر انطوائيةً بل، على العكس، يجعلنا أفضل قدرةً على التواصل. عبر كوننا أكثر ألفةً تجاه حياتنا الداخلية الخاصة – ذلك المشهد الغريب أحيانًا والمخيف الذي حثتنا الفيلسوفة مارثا نوسباوم ببلاغة رائعة على استكشافه رغم مخاوفنا – نتحرر لنبلغ حميمية أوسع أبعادًا وأعظم مع الآخرين. حيث تكتب ميتلاند:

"لا شيء أكثر تدميرًا للعلاقات الدافئة من الشخص الذي "لا يمانع" بلا نهاية. لا يبدو الشخص من هذا النوع ممثلًا لفردٍ كامل إن لم يكن لديه شيء خاص به ليطرحه، فيتحدث بناء عليه. يشير هذا إلى أنه حتى هؤلاء الذين يعرفون أنهم يكونون على أكمل وأفضل شكلٍ في العلاقات (من أي نوع) يحتاجون إلى قدرةٍ على أن يكونوا وحدهم، وعلى الأرجح إلى بعض المناسبات، على الأقل، ليستخدموا هذه القدرة. إن كنت تعرف من أنت وتعرف أنك تتواصل مع الآخرين لأنك تريد ذلك، وليس لأنك مقيّد، داخل الحاجة الماسة والطمع، لأنك تخشى أنك لن تكون موجودًا دون شخص ما يؤكد على هذه الحقيقة، فأنت حر. بل إن بعض الانعزال يمكن في الحقيقة أن يخلق علاقاتٍ أفضل، لأن طرفي العلاقة سوف يكونا أكثر حرية".

ومع ذلك فإن قيمة كون المرء وحيدًا قد انحدرت نزولًا إلى دوامةٍ من الحكم الاجتماعي على مر عصور الإنسانية. تستشهد ميتلاند بصعود فكرة "العوانس الذكور" في التعداد الرسمي للسكان في الولايات المتحدة – أي الرجال فوق الأربعين عامًا الذين لم يتزوجوا مطلقًا، الذين ارتفعت نسبتهم من 6 بالمئة عام 1980 إلى 16 بالمئة عام 2014 – في تتبعها للتشويه الثقافي الغريب للفكرة نفسها، حيث تقول:

"في العصور الوسطى كانت كلمة "عانس" تمثل إطراءً. كان العانس (عادة تشير إلى امرأة) هو الشخص الذي يستطيع الغزل بشكل جيد: فالمرأة التي أمكنها الغزل بشكل جيد كانت مكتفية ماليًا – حيث كانت تلك إحدى الطرق القليلة جدًا التي مكنت المرأة في العصور الوسطى من تحقيق الاستقلال الاقتصادي. وكانت الكلمة تطبّق بشكل سخي على جميع النساء في مرحلة الزواج كوسيلة لقول إنهن اخترن العلاقة بحرية، بناء على الاختيار الشخصي، وليس بسبب اليأس المالي. ولكن الآن تمثل الكلمة إهانة، لأننا نخاف "على" مثل تلك المرأة – وكذلك الرجل حاليًا – الذي هو على الأرجح "سايكوباتي"/معتل اجتماعيًا".

هذا الموقف الحديث إلى حدٍ ما، الذي يطرح الوحدة الطوعية كرهانٍ ثلاثي سام على كون الشخص "حزين، غاضب وسيء" – يتعزز عبر شكلٍ من المنطق العقائدي المنطوي على مغالطة، الذي لا يمنح من يختارون الانعزال الاحترام الأساسي لاختيارهم. مفكرة في الاستجابة المشفقة السائدة – الناجمة عن الجزء "الحزين" من العقيدة – تستعرض ميتلاند الاستحالة المُسخطة لدحض مثل هذه الافتراضات الاجتماعية:

"إن قلت: "حسنًا، في الحقيقة لا؛ أنا سعيد للغاية"، يستخدم الإنكار لإثبات الحالة. لقد قال أحدهم مؤخرًا، محاولًا تعزيتي في بؤسي، عندما طمئنته حيال أنني في الواقع سعيدة: "قد تظنين أنك سعيدة". لكن السعادة شعور. لا أظنها – بل أشعر بها. بالتأكيد ربما أعيش في سعادة وهمية، وكامل صرح الفرح والرضا سوف ينهار فوق رأسي قريبًا، لكن في اللحظة الراهنة إما أنني أكذب أو أنني أصدُق. لا يمكن لسعادتي، حسب الطبيعة المحددة للسعادة، أن تكون شيئًا أظن أنني أشعر به دون أن أشعر به حقًا. ليس هناك استجابة ممكنة لا تهبط بشكل شبه فوري إلى مستوى حوار الدفاع في مواجهة الاتهامات ("فعلت!، لم أفعل!؛ فعلت!، لم أفعل!") الخاص بملعب المدرسة".

يكمن وراء تلك المواقف، حسبما تجادل ميتلاند، المحرك الأساسي للخوف – الخوف من هؤلاء المختلفين عنّا بشكل جذري، الذين يتخذون خياراتٍ لا نفهمها بالضرورة. يقودنا هذا بدوره إلى إسقاط خوفنا على الآخرين، عادة في صورة غضب – ما يمثل تعبيرًا حزينًا، غاضبًا وسيءً، في آن، عن ملاحظة أناييز نين المميزة: "علامة تقلقل داخلي عظيم أن تكون عدائيًا تجاه غير المألوف".


هذه المخاوف الاجتماعية المعززة باستمرار، حسبما تتابع ميتلاند، لها عواقب مخيفة:

"إن أخبرت الناس عددًا كافيًا من المرات أنهم غير سعداء، غير مكتملين، مجانين بشكلٍ محتمل وبالتأكيد أنانيين فلا بد أن يأتي صباح غائم حيث يستيقظون مع بداية إصابتهم بزكامٍ شديد متسائلين حول ما إذا كانوا وحيدين أم أنهم ببساطة "وحدهم"".

(هذا الفرق الجوهري بين كون المرء وحيدًا وشعوره بالوحدة، في الواقع، ليس فقط محوريًا بالنسبة لقلقنا النفسي لكنه مسنون حتى في أجسادنا – فبينما الانعزال قد يكون ضروريًا للإبداع ومفتاحًا لأسطورة العبقرية، وجد علماء أن الوحدة لها عواقب جسدية مميتة تحمل مخاطر إصابتنا بكل شيء من مرض القلب حتى العته).

للمفارقة، وفقًا لميتلاند، كان الانعزال جزءً لا يتجزأ من نمط حياة وروح العديد من رموزنا الثقافية الأكثر شهرة، من المستكشفين والمغامرين العظماء إلى "العباقرة" المشهورين. تشتهد ميتلاند بممثلة الأفلام الصامتة العظيمة جريتا جاربو، وهي منعزلةٌ شهيرة، كمثالٍ مؤثرٍ بشكلٍ خاص:

"قدمت جاربو دقةً في التعبير إلى فن التمثيل الصامت، وأوضحت أن تأثيره على الجماهير لا يمكن أن يكون مبالغًا فيه... وعند تقاعدها تبنت نمط حياةٍ من البساطة والترفيه، حيث كانت أحيانًا "تنساق مع التيار" وحسب. لكنها دائمًا كان لديها أصدقاء مقربون اختلطت بهم وسافرت معهم. لم تتزوج لكن كان لديها علاقات حبٍ جادة مع رجالٍ ونساء. جمعت قطعًا فنية. مارست المشي، وحدها ومع رفقة، خصوصًا في شوارع نيويورك. كانت ماهرة في تجنب مصوري الفضائح. بما أنها اختارت التقاعد، ورفضت باستمرار لبقية حياتها فرصًا لصنع المزيد من الأفلام، فمن المعقول افتراض أنها كانت راضية بهذا الخيار.

في الواقع يبدو واضحًا أن الكثير من البشر، لأسبابٍ عديدة مختلفة، على مر التاريخ وعبر الثقافات، قد سعوا نحو الانعزال إلى الحد الذي حققته جاربو، وبعد اختبار هذا النمط من الحياة لفترة يستمرون في الالتزام بخياراتهم، حتى عندما تتوفر لهم فرصٌ جيدة تمامًا لعيش حياةٍ أكثر اجتماعية".

إذن فكيف نشأت مواقفنا الحالية تجاه الانعزال؟ تجادل ميتلاند بأن رفضنا المؤسف لمنح من يختارون أن يكونوا وحدهم "التسامح العادي تجاه الاختلاف الذي نحترم أنفسنا على أساسه في مواقف أخرى" هو نتيجة "ارتباك ثقافي عميق جدًا":

"طوال ألفيّتين، على الأقل، كنا نحاول التعايش مع نموذجين متعارضين ومتناقضين جذريًا لماهية الحياة الجيدة، أو ما يجب أن تكون عليه. ثقافيًا، هناك ميلٌ سهلٌ قليلًا لإلقاء اللوم على مشكلاتنا، وخصوصًا صعوباتنا الاجتماعية، سواء أكان ذلك مبنيًا على داروينية اجتماعية خام أو على حزمةٍ مبهمة التعريف يطلق عليها "نموذج التراث اليهودي المسيحي" أو "التقاليد". يبدو أن ذلك هو سبب، ضمن أسباب أخرى، أننا نواجه صعوبة كبيرة جدًا مع الجنس (جنسنا وجنس الآخرين)؛ فلماذا تظل المرأة غير متكافئة؛ لماذا نحن ملتزمون تجاه الهيمنة على العالم وتدمير النظام البيئي؛ ولماذا لسنا سعداء تمامًا مثلما نستحق. أنا لا أحمل هذا الاعتقاد – لكنني أعتقد أننا نعاني من محاولة الحفاظ على تماسك قيم التراث المسيحي اليهودي (بقدر فهمنا لها) وقيم الحضارة الكلاسيكية، وهي حقًا غير متلائمة".

تتبع ميتلاند تطور ذلك الارتباك وصولًا إلى الامبراطورية الرومانية، بمثلها العليا للحياة الاجتماعية والعامة. حتى أن كلمة "حضارة" (civilization) تدل على هذه القيم – فهي تشتق من كلمة (civis)، المقابل اللاتيني لكلمة "مواطن" (citizen). (رغم أن ذلك يستدعي الإشارة إلى أن إحدى الصادرات الرومانية الأكثر استمرارية هي تذكيرها المميز بأن "كل من يدعونك إلى ذواتهم يبعدونك عن ذاتك"). ومع ذلك، اشتهر الرومان على نحوٍ سيء باشتهائهم للسلطة، الشرف والمجد – وهي مثل عليا اجتماعية دائمًا بطبيعتها وحاسمة بالنسبة للتماسك السياسي للمجتمع عند مواجهته للبرابرة عند الأبواب. تعلّق ميتلاند:

"في هذه الظروف يمثل الانعزال تهديدًا – فدون إيمانٍ ديني مضمّن ومشترك لإعطاء معنى مشترك للاختيار، يعد كون المرء وحيدًا تحديًا لأمن هؤلاء الذين يتشبثون بشكلٍ يائس بعوامةٍ تغرق. الأشخاص الذين ينسحبون و"يمضون وحدهم" يكشفون الخطر حينما يبدو أنهم يهربون من المشاركة".

تتقدم ميتلاند سريعًا إلى مأزقنا الحالي، نتاج آلاف السنين من الأمتعة الثقافية:

"لا عجب أننا خائفون من هؤلاء الذين يرغبون في ويطمحون إلى أن يكونوا وحدهم، باستثناء عددٍ منهم أكبر قليلًا كان مقبولًا في صورٍ اجتماعية انتشرت مؤخرًا. لا عجب أننا نريد ترسيخ الانعزال بوصفه "حزن، غضب، سوء" – فبشكل واعي أو لاواعي، هؤلاء منّا الذين يريدون فعل شيء مضاد للثقافة يكشفون، بل ويوسّعون، خطوط الصدع.

لكن الحقيقة هي أن النموذج الحالي ليس ناجحًا حقًا. رغم الانتباه والعناية المركزين على الكبرياء الفردي؛ رغم المحاولة لأكثر من قرنٍ "زيادة احترام الذات" ضمن الاعتقاد الغريب بأن ذلك سوف يحسّن في الوقت ذاته الفردية ويخلق مواطنين صالحين؛ رغم المحاولات الباسلة لتوطيد العلاقات وتقليل القيود؛ رغم جهود الترهيب لإكراه الأشخاص الأكثر ابداعًا واستقلالية في التفكير على أن يصبحوا "لاعبو فريق"؛ رغم وعود الحرية الشخصية المقدمة إلينا من قبل النيوليبرالية ومذهب الفردية والحقوق – رغم كل هذا، يبدو أن الينبوع ينضب. نحن نعيش في مجتمعٍ متصفٍ بالأطفال غير السعداء، الشباب المغترب، البالغين المنعزلين سياسيًا، الاستهلاكية المسفّهة، عدم المساواة المتفاقمة، التذبذب المخيف للغاية في النظام الاقتصادي بالكامل، المعدلات المرتفعة من اعتلال الصحة العقلية والكوكب المتضرر للغاية لدرجة أننا قد ينتهي بنا المطاف مدمرين للمشروع بالكامل.
بالتأكيد نعيش أيضًا في عالم من الجمال العظيم، الحب الشغوف والقرباني، الحنان، الازدهار، الشجاعة والفرح. لكن يبدو أن الكثير جدًا من كل هذا يحدث بغض النظر عن النموذج والأفكار المنتشية للفلسفة. لقد كان دائمًا يحدث. ولأنه كان دائمًا يحدث تحديدًا، نلجأ لمصارعة هذه المشكلات أملًا في أنه يمكن أن يحدث أكثر ولأشخاصٍ أكثر".

المصارعة التي نقوم بها، عادة في محاولة للإمساك والتشبث بطريقنا إلى خارج الانعزال – هي حالة لا نفهمها بالكامل ولا يمكننا أن نسكنها بالكامل لنحصد ثمارها. تشير ميتلاند إلى أن أسلوبينا الأكثر انتشارًا لنحمي أنفسنا من الانعزال هما، استراتيجية الخوف والاسقاط الهجومية، حيث ننتقد هؤلاء القادرين على التوصل للفرح في الانعزال والحكم عليهم بنموذج الحزين-الغاضب-السيء، والأسلوب الدفاعي، حيث نحاول عزل أنفسنا عن خطر البقاء وحدنا عبر مراكمة شبكةٍ واسعة من الصلات الاجتماعية، على نحوٍ قلق، كشكلٍ من "بوليصة التأمين". في أحد تعليقاتها الجانبية الأكثر إثارة للمشاعر بهدوء، تهمس ميتلاند:

"ليس هناك عدد من الأصدقاء على فيسبوك، جهات الاتصال، العلاقات أو المخصصات المالية يمكنه ضمان حمايتنا".

تتجلى ازدواجيتنا الثقافية أيضًا في تحيزنا المزمن للانفتاح، رغم الأدلة المتزايدة على قوة الانطوائية. تكتب ميتلاند:

"في ذات الوقت مع السعي وراء هذا "المثل الأعلى الانفتاحي"، يقدم المجتمع رسالةً معاكسة – رغم كونها أكثر خفاءً. فمظعم الأشخاص سوف يظلون يفضلون أن يوصفوا بالحساسين، الروحانيين، التأمليين، المتمتعين بحيواتٍ داخلية غنية والمستمعين الجيدين، مقارنة بالأضداد المنفتحة. أظن أننا لا نزال معجبين بحياة المفكر أكثر من حياة مندوب المبيعات؛ بالمؤلف أكثر من المؤدي (وهو سبب تأكيد نجوم البوب باستمرار على أنهم يكتبون أغانيهم بأنفسهم)؛ بالحِرفي أكثر من السياسي؛ بالمغامر المنفرد أكثر من سائح الرحلة الشاملة... لكن نوع الرسائل المختلطة مع كونها غير مفحوصة التي يقدمها المجتمع إلينا فيما يتعلق بكون المرء وحيدًا تزيد الارتباك؛ ويقوي الارتباك الخوف".



نجد ضمن أدوات ميتلاند من "أفكارٍ لقلب الآراء السلبية تجاه الانعزال وتطوير شعورٍ إيجابي تجاه كون المرء وحيدًا، وتطوير قدرةٍ حقيقية على الاستمتاع بذلك" استكشاف الخيال وممارسة مواجهة الخوف. تسرد ميتلاند الفئات الخمس الأساسية من الثمار التي سوف نجنيها من نسي خوفنا المشروط ثقافيًا من البقاء وحيدين وتعلم كيفية "ممارسة" الانعزال بشكل جيد:

1) وعيٌ أعمق بالنفس.
2) تناغمٌ أعمق مع الطبيعة.
3) علاقةٌ أعمق مع الفائق (الخشوعي، الإلهي، الروحاني).
4) زيادة الإبداع.
5) شعورٌ متزايدٌ بالحرية.
Subscribe to: Comments ( Atom )
محمود علي - مترجم وكاتب صحفي مصري

Follow @Moud_aly

موضوعات

تاريخ (8) سياسة (8) أدب (3) فلسفة (3) علم اجتماع (2) موسيقى (2) سفر (1) سينما (1) علم نفس (1) قصة (1)

الأكثر قراءة

  • عندما حاول جون لينون وزوجته سرقة كنوز مصر القديمة
    كنت أبحث في أمر غير ذي صلة (السياسات المصرية في سبعينات القرن الماضي)، حين تعثرت بهذه الصورة التي تجمع جون لينون، نجم فريق البيتلز الغن...
  • إبراهيم معلوف: عازف على أرباع النغمات
    26 مايو 2015 | موقع "نيويورك تايمز" أدى إبراهيم معلوف عزفًا منفردًا على آلة البوق ليلة الاثنين في "ديزيس كلو...
  • مترجم - الجاسوس الذي خدع نظام الأسد
    فيما يبدو كخيانة ناجحة للغاية، أمد ضابط كبير بجيش الأسد المتمردين المدعومين من الغرب بمعلومات استخباراتية هامة أدت إلى إيقاع خسائر فادح...
  • بورنوجرافيا: "دينا ماعندهاش بولة!"
    إن كنت(ي) تحب(ين) الاستماع إلى الموسيقى أثناء القراءة، كحالي، فأرشح لك المقطع الموسيقي الآتي: https://soundcloud.com/drixxxe- 2 /sext...
  • عقيدة أوباما: السياسة الخارجية والشرق الأوسط والربيع العربي
    ليون بانيتا (إلى اليسار) يحضر مؤتمرًا صحفيًا بشأن الاستراتيجية العسكرية في يناير 2012. انتقد بانيتا، الذي كان حينها وزير دفاع أوباما، ...
  • مترجم | فريدريك نيتشه ومعضلة احتضان الشدائد أم الهروب منها
    قصة فلسفية مؤثرة عن قيمة الفشل، قبل قرنٍ ونصف من تقديسنا الأعمى الحديث له ماريا بوبوفا - المادة الأصلية يعد الكاتب، الملح...
  • مترجَم | الرجل الذي زار جميع دول العالم
    المادة الأصلية تعليق المترجم: هذا النص لألبيرت بوديل، وهو الرجل الذي زار، حرفيًا، جميع دول العالم، ويحكي هنا عن "أصعب" تسع دو...
  • مترجم | لماذا يدعم «داعش» دونالد ترامب؟
    مات أولسن – الرئيس السابق للمركز الوطني الأمريكي لمكافحة الإرهاب 7 ديسمبر 2016 | تايم المادة الأصلية يعتلي دونالد ترامب وهي...
  • تأهل تشيلي إلى كأس العالم 1974: "كان أسخف شيء في التاريخ"
    إنه العام 1973، يشارك منتخب تشيلي في التصفيات المؤهلة لكأس العالم الذي سيجرى العام المقبل في ألمانيا الغربية. إلا أن تفاصيل تأهل منتخب ...
  • من كواليس كامب ديفيد: "علشان خاطر كارتر"
    لا أود الخوض في وصف أحداث سياسية أو تاريخية، أو سرد تفاصيل ومراحل ما دار خلال 13 يوما قضاها الوفدان المصري والإسرائيلي في غابات كا...
Powered by Blogger.

أرشيف المدونة

  • ▼  2016 (10)
    • ►  Nov (4)
    • ►  Oct (1)
    • ▼  Sept (5)
      • مترجَم | الرجل الذي زار جميع دول العالم
      • قصة قصيرة طويلة
      • مترجَم | كيف تكون وحيدًا دون أن تشعر بالوحدة؟
      • مترجم | فريدريك نيتشه ومعضلة احتضان الشدائد أم اله...
      • مترجم | لماذا يدعم «داعش» دونالد ترامب؟
  • ►  2015 (6)
    • ►  Sept (2)
    • ►  Jun (3)
    • ►  May (1)
Copyright 2014 Mahmoud Aly's.
Designed by OddThemes